كانت المياه ولا تزال من أقوى أسباب الحروب والنزاعات المباشرة وغير المباشرة، منذ أن كانت القبائل الإغريقية والعربية تتصارع حول العيون والآبار، وحتى صراعات السدود على الأنهار حاليا. فالمياه العذبة تمثل مقوما أساسيا لبناء الحضارات وترسم خريطة الوجود البشري، ولا يمكن فصل بئر زمزم مثلا عن أسباب الاستقرار للهجرات المتوالية في وادٍ غير ذي زرع عند بيت الله الحرام.
ورغم التقدم التكنولوجي الهائل، إلا أن العلم الحديث لم يستطع حل مشكلة ندرة المياه بشكل يعوّض فصول الجفاف أو مشاكل التصحر. فلا تزال محاولات تحلية مياه البحر مكلفة وغير متاحة ومناسبة لكل الدول، وقد يكون الأمر سببا في تغيرات سياسية وجيوسياسية كبيرة. ففي دراسة للأستاذ بجامعة نيويورك الأمريكية "جون وتربري" بعنوان "الاقتصاد السياسي للمناخ في المنطقة العربية" يشير إلى أن الجفاف الذي ضرب مناطق شرق سوريا قبيل عام 2011 أسفر عن موت نحو 85 في المئة من الثروة الحيوانية هناك، وأدى إلى هجرات داخلية من الريف للمدن الكبرى وتشكيل تجمعات عشوائية كان لها دور هام في الثورة السورية. وحين اندلعت مظاهرات شح المياه حاليا في الأهواز، جنوب غرب إيران، كان تصريح المرشد الأعلى الإيراني نادرا في تعاطفه مع المحتجين، ومعترفا بالوضع الصعب هناك.
مسألة المياه كقضية أمن قومي حاليا أكبر وأعقد من مجرد الصراع على أحد الموارد المائية، فهي تتصل اتصالا وثيقا بقضية البيئة والتغيرات المناخية التي يعتبرها البعض قضية نخبوية أو مشكوكا في أمرها
إن مسألة المياه كقضية أمن قومي حاليا أكبر وأعقد من مجرد الصراع على أحد الموارد المائية، فهي تتصل اتصالا وثيقا بقضية البيئة والتغيرات المناخية التي يعتبرها البعض قضية نخبوية أو مشكوكا في أمرها. وكما أن إيران تحصد أربعين سنة من
سوء إدارة هذا الملف باعتراف مسئوليها، بحسب صحيفة التايمز البريطانية، فإن السودان دفع ثمن هذا الأمر مع إقليم دارفور، ومصر بصدد دفعه الآن مع مشكلة
سد النهضة.
التغيرات السياسية والاقتصادية المصاحبة لأزمات المياه ليست من النوع التقليدي، بل هي مفاجئة ومباغتة كما حدث في سوريا والسودان وإيران، وأسوأ ما فيها أنها تكون مباغتة للنظام الحاكم والشعب على السواء. فمن ذا الذي يصبر على العطش أو التصحر الذي يعني شح الغذاء وبالتالي النزوح والبحث عن أي أمل؟ وحين قال الله تعالي في سورة قريش "أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف" قدم الأمن الغذائي على الأمن بمفهومه التقليدي. وذلك لأن الأمن الغذائي، والمائي جزء منه، هو عصب الحياة البشرية. والمتأمل للثورات العربية قبل عقد من الزمان يدرك أولوياتها التي جعلت الخبر والماء في مقدمة الهتافات في بلدان مثل مصر وتونس، حين هتف المحتجون "عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية"، و"خبز وماء وابن علي لأ".
المأساة الأكبر في مشكلة المياه أنها من نوعية المشاكل التي لا تفلح معها الحلول قصيرة الأمد، فهي دائما تراكمية. ولأن معظم الأنظمة العربية مشغولة بنظريات أمنية قصيرة الأمد، ومرتبطة بالشق العسكري والإعلامي لم تولِ اهتماما يذكر بهذه القضية
المأساة الأكبر في مشكلة المياه أنها من نوعية المشاكل التي لا تفلح معها الحلول قصيرة الأمد، فهي دائما تراكمية. ولأن معظم الأنظمة العربية مشغولة بنظريات أمنية قصيرة الأمد، ومرتبطة بالشق العسكري والإعلامي لم تولِ اهتماما يذكر بهذه القضية، رغم أن شرعية وجودها مرتبط بوجود الخبز الماء. وقد نشرت هيئات تابعة للأمم المتحدة كيف تغلب المواطنون الهنود على موجات الجفاف في المجتمعات المحلية بالتكافل المجتمعي المحلي، ثم بدأوا في تخزين المواد الغذائية، وهو ما يعني أن التعاضد المجتمعي يتفوق على الجهود الحكومية.
التجربة البشرية تقول بأن
موجات الجفاف وشح المياه قديمة قدم هذا العالم، الفارق الوحيد بين تأثيرها السلبي والإيجابي على الإنسان هو قدرته على إدارة هذه الموارد بشكل رشيد، وانعكاس ذلك على السياسيات والاستراتيجيات. وكأن قدر المجتمعات البشرية أن تدور مع سنين وفرة وسنين عجاف يأكلن ما قدم لهن، كما شرحت لنا القصة القرآنية التي ربطت بين أسباب الصعود السياسي لسيدنا يوسف عليه السلام وقدرته على حل إشكالية الأمن الغذائي في ذلك الزمان.
twitter.com/hanybeshr