هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
مع تشكُّل الكيان الفلسطيني بخريطته الانتدابية الجديدة، تبلورت القضية الفلسطينية بوضوح مع الاحتلال البريطاني لفلسطين وتسهيل الهجرة اليهودية إليها، وبداية مقاومة الاحتلال وأذنابه من الصهاينة وأعوانهم. وقد نشأت هذه النهضة في ظل أحداث جسيمة أدت إلى النكبة، مع مجموعة شعراء على رأسها "شاعر فلسطين" إبراهيم طوقان.
في المقال السابق تحدثنا عن المرحلة الانتقالية للشعر الفلسطيني (1919 ـ 1926)، في هذه الأثناء بدأ التجديد الشعري من حيث الشكل والمضمون يدخل على الشعر العربي في فلسطين، حيث كان طالب فلسطيني يدرس في الجامعة الأمريكية في بيروت (1924 ـ 1929)، قد ذاع صيته في الأوساط الأدبية العربية، وبدأ منذ تلك الفترة العمل على التجديد المنتظر..
وبعد محاولات خجولة في تجديد بنية القصيدة العمودية من قبل الشاعر والتربوي خليل السكاكيني في قضيدته "إن" التي ناضر فيها قصيدة "IF" الشهيرة. وتجربة إسعاف النشاشيبي في رثاء أمير الشعراء أحمد شوقي، جاءت قصيدة إبراهيم طوقان الشهيرة "الثلاثاء الحمراء" لترسم طريقاً جديداً في الشعر الفلسطيني، من حيث عدم التزام الشكل العمودي للقصيدة، ومن حيث الاهتمام بمحتوى القصيدة والموضوع الذي تتناوله.
***
هو بالباب واقف
والردى منه خائف
فاهدئي يا عواصف
خجلاً من جراءته
صامت لو تكلمَ
لفظ النار والدمَ
قل لمن عاب صمتَه
خُلق الحزم أبكمَ
مَن منا لم يتابع هذه القصيدة التي كانت مقدمةً مغنّاة لمسلسل "التغريبة الفلسطينية"؟ ومَن منا لم تلتصق في ذاكرته الفلسطينية الممتدة من بدايات القرن الماضي حتى يومنا هذا؟
هذه القصيدة التي كتبها شاعرُنا الرائد، وكانت مناسبتها أن الحكومة البريطانية المنتدبة عيّنت نائبا عاما في فلسطين. فأمعن في النكاية والكيد للفلسطينيين بالقوانين التعسفية الجائرة التي كان (يطبخها!). فلما ثقلت على العرب وطأتُه، كمَنَ له أحد الشبّان المتحمسين في مدخل دار الحكومة في القدس، وبكل برود أعصاب ورباطة جأش أطلق عليه النار فجرحه جروحاً خطرة.. فقام طوقان يصف إطراق الرجل وصمته قبل تنفيذ العملية في هذه القصيدة التي مطلعها:
لا تسل عن سلامته
روحه فوق راحته
بدّلتهُ همومُه
كفناً من وسادته
يرقب الساعة التي
بعدها هولُ ساعته
وقد وصف الأخطل الصغير هذه القصيدة يومها في صحيفة البرق بالقول: "أتعرف شيئاً عن الشاعرية المتوثبة التي تجيش بها النفوس الظمأى إلى حريتها؟ أتعرف شيئاً عن البلاغة تطلقها الشفاه الملتهبة دماً وناراً؟ تعرّف إليها إذن". مشيراً إلى هذه القصيدة.
في الوقت الذي شهدت المنطقة نهضة شعرية تشكلت في مصر ولبنان على وجه التحديد، واكبتها فلسطين بنهضة شعرية وطنية ابتعدت نوعاً ما عن الرومانطيقية المنتشرة في شعر البلاد الأخرى، وخصوصاً لبنان والمهجر إلى الشعر الوطني الملتهب.
وكان وجود إبراهيم طوقان وأبي سلمى وعبد الرحيم محمود ونضالهم الثقافي، قد أعطى لشعرهم نكهة جديدة وأبعاداً أخرى، جعلتهم يصطفّون في مصافّ الأوائل من الشعراء..
ثم ساهمت النكبة في تفجُّرِ مواهب الشعراء، فكان الشعراء الفلسطينيون هم الأكثر عدداً ونوعية نسبة لعدد السكان، فكان منهم هارون هاشم رشيد وفدوى طوقان وبرهان الدين عبوشي، ثم الموجة الثالثة للنهضة مع محمود درويش وسميح القاسم وراشد حسين وتوفيق زياد ويوسف الخطيب وحسن البحيري..
ولا يختلف اثنان في أن طوقان كان هو رائد الشعر العربي الفلسطيني في القرن الماضي، خاصة وأن قصائده كانت تطير في الآفاق عبر البلاد ويلحنها ويغنيها المشاهير، وتُذاع في الإذاعات. ولم يكتفِ طوقان بالشعر الجامد كأقرانه، بل سجّل في شعره مأساة فلسطين ووسائل علاجها، وبطولات المقاومة الفلسطينية، وعارض أحمد شوقي، وهاجم النفوس الصغيرة، واستخدم لغة سهلة، وردّد الناس قصائده.
فمن هو إبراهيم طوقان؟
هو شاعر وديع مرح من أهل نابلس، ولد فيها عام 1905، وهو ابن عائلة طوقان ذات الثراء والجاه. حمل سلاح الشعر بكل ما أوتي من طاقة شعرية لخدمة قضية وطنه المحتل، والتشهير بالدخيل البغيض، فكان "شاعر فلسطين" بحق، ما أهَله ليؤلف النشيد الوطني العربي الذي بقيت تردده الأجيال لعقود طويلة حتى يومنا هذا:
موطني موطني
الجلال والجمال والسناء والبهاء في رباك
والحياة والنجاة والهناء والرجاء في هواك
درس شاعرنا في الابتدائية في مدارس نابلس، على يد معلمين أزهريين متأثرين بالنهضة الأدبية والشعرية الحديثة في مصر، وفي العام 1919، أكمل دراسته الثانوية في مدرسة المطران في الكلية الإنجليزية في القدس؛ بعد أن قضى فيها أربعة أعوام، وتتلمذ على يد أستاذه نخله زريق الذي كان له عظيم الأثر في حبه للغة العربية وإقباله على دراستها، وخاصة الشعر القديم.
وفي العام 1923، سافر إلى بيروت والتحق بالجامعة الأمريكية ومكث فيها ست سنوات، نال فيها شهادةً في الآداب عام 1929، وهو ما أهله أن يبرع في الأدبين العربي والإنجليزي. وخلال إقامته في بيروت نظم نشيد "موطني".
كان جمهوره الأول في الجامعة أخاه أحمد وزميله سعيد تقي الدين اللذين لم يرحماه في النقد، فقد ساهما بقسوة في أن يراجع وينقّح أشعاره قبل نشرها، ويرمي الزبد منه ويحتفظ بالدرر فقط.
وفي عام 1925، نشر نشيداً وطنياً في الصحافة المصرية، اطّلع عليها خير الدين الزركلي (صاحب الأعلام) وعلق عليها: إن صدق ظني فإن صاحب هذا النشيد سيكون "شاعر فلسطين".
ولقّبت صحف بيروت إبراهيم طوقان في تلك الفترة "شاعر الجامعة". لكن نشاطه لم يقتصر على الجامعة، فقد خرج إلى مجالس الأدب العالي والشعر الرفيع خارج الجامعة، وشارك وهو في الثالثة والعشرين من عمره في مجالس الشيخ أمين تقي الدين، والأستاذ جبر ضومط والشاعر بشارة الخوري (الأخطل الصغير).
عاد بعد دراسته إلى وطنه ليعمل مدرساً للغة العربية في مدرسة النجاح الوطنية (التي أصبحت لاحقاً جامعة النجاح)، ونجح في تعليم طلابه نظم الشعر، فكان من إنجازاته عدد من الشعراء على رأسهم الشاعر الشهيد عبد الرحيم محمود، وانتقل بعدها للتدريس في الجامعة الأمريكية، فعمل مدرساً للغة العربية بين (1931 ـ 1933)، ثم عاد بعدها إلى فلسطين.
وفي العام 1936 تسلم القسم العربي في إذاعة القدس (وهي إذاعة للانتداب تنطق باللغة الإنجليزية)، وعُيّن مديراً للبرامج العربية، وتولى قسم المحاضرات في محطة الإذاعة بفلسطين نحو خمس سنوات. وفي 29 آذار 1936، انطلق على الأثير أول صوت عربي في الإذاعة، ولم يكن ذلك الصوت سوى صوت إبراهيم طوقان.
وعمل إبراهيم بنشاط في الإذاعة، لعلمه بأهمية الدور الذي يقوم به في الإذاعة، فمعلم التلاميذ صار معلم الشعب. ولكن القائمين على الإذاعة لم تعجبهم خطة إبراهيم فيما وضع من برامج تخدم الجمهور أكثر مما تخدم الانتداب، وترفع مستواه الفكري والاجتماعي، وتفتح الوعي على كل جديد، وقد قدّر للمتعلمين والمثقفين أن يستمتعوا بطرائف الأدب التي كان يختارها إبراهيم في الإذاعة.
ومن الإذاعة انطلق إلى عمله الوطني ومعاركه الأدبية والسياسية. وبعد تركه الإذاعة، انتقل إلى بغداد مدرساً، فأنهك عظامه السفر وعاد منها إلى فلسطين مريضاً، فأُدخل المستشفى، حيث توفي فيها عام 1941.
شهدت حياة طوقان معارك أدبية وسياسية مع الانتداب ومع الصهاينة الذين استوطنوا فلسطين وكانوا يكيدون له المكائد في الإذاعة. في المقال القادم، سنتحدث عن القضايا التي رافقت مسيرة "شاعر فلسطين" إبراهيم طوقان وأثرت في مساره وفي القضية الفلسطينية.
*كاتب وشاعر فلسطيني