ضمن معالجتنا لفكرة المواطنة؛ وفي إطار من تكرار المشاهد التي تتعلق بالاستخفاف خاصة في النظم المستبدة، كان من المهم أن نشير إلى استراتيجيات الاستخفاف في النظم المستبدة الفاشية. ذلك أن الاستخفاف بهذا الاعتبار هو أعلى مراحل
الاستبداد، وأن الاستخفاف بالنفس
الإنسانية وحرمتها كيانا وكرامة، وجودا أو نقضا، إنما يشكل أعلى مراحل الاستخفاف.
إلا أن هذا الاستخفاف يجب أن نراه كمنظومة من الإدراكات والتصورات، وكذلك المواقف والسياسات والتصرفات والممارسات، وهو ما جعلنا نتوقف عند كثير من المشاهد التي تشارك فيها المنظومة الاستبدادية بكل أركانها ومقومات نظامها والقوة المسيطرة فيها؛ ضمن تلك الشبكات التي تمكن للحالة الاستبدادية وتقوم على قاعدة إرساء تلك السياسات الطغيانية كاستراتيجيات لتلك المنظومة.
مشاهد عدة أصبحت من التراكم والتكرار؛ حتى لتوضح لنا ما هي قيمة النفس الإنسانية عند المنظومة الاستبدادية! تساؤل خطير من الأهمية أن نتوقف عنده لإيجاد مؤشرات إجابة يمكن أن تفسر لنا تلك المسائل التي تتعلق بعقلية الاستخفاف ومنظومتها
ومن المهم في هذا المقام أن نشير إلى تلك الآية القرآنية التي أكدت على تلك العلاقة الاستخفافية في إطار النموذج الفرعوني: "فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ" (الزخرف: 54). ومن هنا فإن تلك الرابطة المنظمة لعلاقات الاستخفاف إنما تكمن ليس فقط في فرعون، ولكن في منظومته من قومه وما يشكلونه من قابليات لذلك الاستخفاف. مسائل بعضها من بعض تحكم هذا الاختلال الطغياني في معادلات الحكم الفرعوني.
نقول هذا التقديم ضمن مشاهد عدة أصبحت من التراكم والتكرار؛ حتى لتوضح لنا ما هي قيمة النفس الإنسانية عند المنظومة الاستبدادية! تساؤل خطير من الأهمية أن نتوقف عنده لإيجاد مؤشرات إجابة يمكن أن تفسر لنا تلك المسائل التي تتعلق بعقلية الاستخفاف ومنظومتها.
إن فرعون في ذاته هو المستخف الأكبر، ومعه القوم الذين يدعمون هذه الفرعونية وهذا الاستخفاف بكل أشكاله وألوانه؛ إن قولا (إعلاما) أو حكما أو تشريعا أو تعبيرا عن سياسة، أو كل ما يتعلق بحياة الناس في هذا المقام. إن النفس الإنسانية لا وزن لها ولا كرامة ولا كيان معتبرا لها يمكن أن يشكل قيمة أو معيارا في هذا السياق.
ولعلنا في هذا المقام نؤكد أن الإنسان كيانا ووجودا وكرامة إنما يشكل ركنا ركينا في فكرة المواطنة، وأن هذا البعد الإنساني في حقوق التأسيس وحقوق المعاش إنما يشكل في حقيقة الأمر قاعدة لا يستهان بها في التمكين لحقيقة المواطنة في حياة الناس وعلاقاتهم، في العلاقة بين الحكام والمحكومين، وفي العلاقة بين المجتمع والسلطة.
أخطر ما في الأمر، أن يقترن الاستخفاف بحالة من الطاعة العمياء والقابليات التي تمكن للظاهرة الاستبدادية في أشكالها وألوانها
وبهذا الاعتبار فإن القوم بأسرهم قد تطولهم حالة من حالات الفساد المقترنة بالتربية على الاستبداد واصطناع القابليات المتعلقة بقبوله، وقبول الحالة الفرعونية والاستبدادية. وهذا أخطر ما في الأمر، أن يقترن الاستخفاف بحالة من الطاعة العمياء والقابليات التي تمكن للظاهرة الاستبدادية في أشكالها وألوانها.
هذه الأمور جميعا إنما توضح كيفية النظر إلى هذه الحالة الاستخفافية بكل جوانبها وعناصرها ومكوناتها وعقلياتها وآلياتها، والمآلات التي يمكن أن تتركها على المجتمع بأسره وعلاقاته المختلفة.
إنها الحقيقة الكبرى التي تتعلق بهذا النموذج الفرعوني بوصفه هذا النظام ضمن حالات العلو والغلو، وضمن أمور تتعلق بالاستباحة العامة لكل أفراد المجتمع فيجعلهم فرقا وشيعا ويستبيح كل المحرمات والمقدسات المجتمعية في هذا المقام. ومن هنا فإن القيام بكل الواجبات المهمة ضمن عملية مقاومة الاستبداد من خلال مكافحة كل ما يتعلق بالقابليات للاستخفاف؛ هو أمر من الأهمية في تفكيك الاستبداد ومقاومته مقاومة مؤثرة وحقيقية.
إذا أردت أن تستكشف من خلال مشاهد عدة حقيقة الاستخفاف بالإنسان والمواطن ضمن هذا النظام الاستبدادي في
مصر بعد الانقلاب العسكري؛ فإنك تستطيع أن تشهد ذلك في مقولات للمنقلب حينما يؤكد على من يدعمونه أن يقومون بالقتل من دون حساب، وموجها كلامه إلى أجهزته الأمنية في أن تقتل بلا مسؤولية أو مساءلة.
تستكشف من خلال مشاهد عدة حقيقة الاستخفاف بالإنسان والمواطن ضمن هذا النظام الاستبدادي في مصر بعد الانقلاب العسكري؛ فإنك تستطيع أن تشهد ذلك في مقولات للمنقلب حينما يؤكد على من يدعمونه أن يقومون بالقتل من دون حساب، وموجها كلامه إلى أجهزته الأمنية في أن تقتل بلا مسؤولية أو مساءلة
نرى ذلك في القتل في سيارة الترحيلات على سبيل المثال، في مفارقة عجيبة يتحدث فيها عن قتلى يعدون 35 إنسانا فيصفهم بـ"الكام بتاع"، بينما يتحدث عن اللواء والد الضابط القاتل بأن قلبه سينفطر عليه عقب إحالته للتحقيق ويبحثون الاتصال بالقاضي الذي سيتولى القضية.
هذه الممارسات التي تمثل حالة الاستخفاف في عمقها غير مستغربة؛ حينما يخرج أحد علماء السلطان مبررا كل عمل يتعلق بالقتل أو التحريض عليه بالنسبة لخصوم النظام، قائلا قولته الشهيرة: "اضرب في المليان"، و"دول ناس نتنة، ريحتهم وحشة".. ما هذه اللغة الحقيرة المستخفة بالنفس الإنسانية؟ هل يمكنك بعد ذلك أن تستغرب أن قاضيا يحكم بأحكام إعدام بالجملة من دون أي تحقيق أو تدقيق وهو يعرف أن التهم جلها أو كلها موضع اختلاق وتلفيق؟ وماذا من بعد ذلك؟ هل من قاض من ذلك المجتمع يستنكف أن يحصن تلك الأحكام لأن تلك رغبة النظام الفاشي؟
وهل يمكن بعد ذلك أن تستغرب ضمن هذه المنظومة في الاستخفاف أن مفتيا يوقع بأريحية على أحكام إعدام بالجملة؛ لا يتحرز في حرمة النفس التي كرمها الله وحرم قتلها إلا بالحق؟ هل يمكن أن تعجب أيضا إذا وجدت جوقة من الإعلاميين يحرضون ليل نهار على قتل النفس بلا أي وازع من ضمير أو حياء؟ وهل يمكن أن ندهش لو أن البرلمان أصدر قوانين عدة تحض على الكراهية وتشرعن عملية القتل، بلا أي تقدير لدور يجب أن تقوم به مؤسسة برلمانية وتشريعية في حماية عموم الناس والحفاظ على حقوق الشعوب؟
هل يمكنك بعد ذلك أن تستوعب ماذا يمكن أن يقوم به وزير عسكري أتى باعتباره المخلص لمشكلات وزارة النقل خاصة في السكك الحديدية، ومنذ أن أتى تتكرر الحوادث، فلا نجد أي ردود فعل تؤكد حجم المسؤولية عن تلك النفوس البشرية التي تزهق في كل حادث؟ بل إنه تارة يشجع سائق قطار قد دهس عربات عمال فيرفع عليه صفات المديح فيما قام به، وكذلك يدافع عن ذلك المحصل الذي قد أجبر أحد المواطنين على النزول من القطار وهو مندفع بسرعته فسقط تحت عجلات القطار ولقى حتفه. ولم يكن مستغربا في ذلك أن يحصل هذا المحصل على عفو رئاسي بعد الحكم عليه بعدد سنوات لا يتجاوز اليد الواحدة.
فإذا ما اتهم هذا الوزير بالتقصير وأنه لم يقم بأي أمر حقيقي لحل المشاكل التي تتعلق بالسكك الحديدية، فهو على سيرة رئيسه المنقلب الذي حينما طالبه وزير النقل المدني بأنه يحتاج عشرة مليارات لإصلاح منظومة السكك الحديدية، فإذا به يتأفف ويسخر ويجعل ذلك موضع مقارنة سخيفة ضمن عقلية جباية حقيرة؛ من أنه يستطيع أن يضع تلك الأموال في البنوك ويحصل على فوائدها.
ماذا يمكن أن يقول صنيعته في تلك الوزارة حينما ينتقل من حادث لحادث ومن فشل لفشل، فيقول إن العسكري لا يهرب من الميدان ردا على من طالب بمحاسبته أو استقالته؟
إنها استراتيجية العدالة حينما تتمكن لتكون أساسا لمواجهة كل هذه الحالة الاستخفافية التي يمارسها ذلك النظام الفاشي
بات كل هذا الأمر من مشاهد ومن مفردات خطاب يشكل هذه العلاقة التي ترتبط بالاستخفاف؛ وهذه الاستراتيجية التي تهدر قيمة الإنسان والمواطن وتستخف بحرمة نفسه، لتشير إلى هذا النموذج الفرعوني في كل أحواله التي تشكل عناصر عملية الاستخفاف باعتبارها أعلى مراحل الاستبداد، وفي استخفافه بالنفس البشرية أعلى مراحل استخفافه؛ مرتكبا تلك الحماقات كسياسات واستراتيجيات، بينما يقوم بعد ذلك بتشييد ما أسماه بـ"مدينة
العدالة" في مدينته الإدارية وقلعة الحماية له ولحلفائه، وكأن العدالة مدينة تشيد وليست حالة تتأكد من خلال سياسات منظومة العدالة الوجودية والحقوقية والقضائية والقانونية والتشريعية وكذا العدالة الاجتماعية..
إنها استراتيجية العدالة حينما تتمكن لتكون أساسا لمواجهة كل هذه الحالة الاستخفافية التي يمارسها ذلك النظام الفاشي.
twitter.com/Saif_abdelfatah