هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
الأخلاق والعلاقات الدولية: منظور ترَاجِيدِيّ
المؤلف: ريتشارد نيد ليبو
الناشر: كامبريج يونيفيرستي برس
سنه النشر: 2020
عدد الصفحات: 216
تبدو العلاقة وثيقة بين الأخلاق والعلاقات الدولية، وقد يظن البعض أن هذه العلاقة غير موجودة أصلا، لكن الدارس لموضوع العلاقات الدولية بشكل مُعمق، يرى أن الكثير من المساهمات في هذا المجال لها بُعد أخلاقي مباشر أو غير مباشر. لكن الأهم هنا كيف نحدد مصدر الأخلاق في العلاقات الدولية؟ وما هي طبيعة هذه العلاقة بين الأخلاق والسياسات الخارجية؟ وهل لكل دين وشعب أو حضارة فهم مُختلف للأخلاق والعلاقة بالسياسة الخارجية؟
الكتاب الذي بين أيدينا يقدم لنا منظورا أخلاقيا جديدا لفهم وتحليل وصنع السياسات الخارجية بالاعتماد على التراجيديا اليونانية، والتراجيديا بالنسبة للكاتب هي أقدم الأطر الأخلاقية التي تم ابتكارها من قبل شعراء أثينا في القرن الخامس قبل الميلاد، وهي أيضا العنصر التأسيسي للثقافة الغربية. ريتشارد نيد ليبو يُؤسس لإطار نظري لفهم السياسات الخارجية، اعتمادا على الإرث اليوناني وتحديدا مما كُتب ضمن ما يسمى "التراجيديا اليونانية"، حيث إن هذا الكتاب يَحوي ست فصول بما فيها المقدمة والخاتمة.
في مقدمة الكتاب، يُجادل الكاتب بأن السياسات الخارجية الأخلاقية غالبا ما تكون أكثر نجاحا، وأن السياسات التي لا يوجد بها بُعد أخلاقي غالبا ما تنتهي بالفشل الذريع. فعلى سبيل المثال، يؤكد الكاتب أنه وبسبب سياسات أمريكا غير الأخلاقية في العالم مثل التدخل في شؤون الدول الأخرى، ودعم الديكتاتوريين ومُعادي الديمقراطية، والاغتيالات السياسية وتغيير الأنظمة السياسية بشكل غير شرعي في بعض الدول، كل هذه الأساليب غير الأخلاقية لم تزِد من قوة وتأثير أمريكا بالسياسة الدولية، بل على العكس، تعاني أمريكا تراجعا أخلاقيا بسبب ذلك. أيضا فإن مثل هذه السياسيات الخارجية تتناقض مع جوهر الديمقراطية. بناء عليه، فإن السياسيات الخارجية غير الأخلاقية تُخرب وتدمر الديمقراطيات داخليا وخارجيا.
في الفصل الأول المُعنون بـ "التراجيديا والسياسة الخارجية"، يُوضح الكاتب أنه بالرغم من أن التراجيديا هي نوع من الكتابات الأدبية، إلا أنها شكل من أشكال التحليل السياسي. فمثلا إسخيلوس، وسوفوكليس ويوربيديس ابتكروا مفهوم التراجيديا لإيمانهم أنها شملت فهم السمات الأساسية للحياة البشرية وظروف الإنسان. وهم أيضا تصوروا التراجيديا على أنها مصدر للأخلاق بحسب الكاتب.
كلمة "تراجيديا" تستخدم لوصف معاناة يتعذر تعليلها مثل، زلازل وفيضانات، وحروب ومجاعات وجائحات وكوارث بيئية. لكن كيف لنا أن نستفيد من أدبيات التراجيديا في الوقت الراهن؟ يُجيب الكاتب أن التراجيديا هي مصدر للتعلم السياسي والأخلاقي، فهي تُعلمنا أن نكون أكثر تعاطفا وإدراكا واحتراما وأقل غطرسة وتكبرا. أما على مستوى السياسات الخارجية، تجعلنا التراجيديا أكثر معرفة بحدود عقولنا وإمكانياتنا بل وضعفنا، فهي تُعرفنا مثلا أن مفهومنا للعدل ليس مفهوما عالميا، وألا نكون متغطرسين باعتقاداتنا.
بحسب الكاتب، فإن الولايات المتحدة الامريكية عانت وتعاني من الغطرسة منذ 1945 وهي لم تتعلم بعد من هذا الفشل. لذا، التراجيديا هي عبارة عن وسيلة لتعلمنا الأخلاق وتعزيز النقاش لكيفية الوصول لحياة سعيدة أفضل. والحياة السعيدة لا يمكن الوصول إليها إلا بعد أن يكون المرء غير مملوك لشهواته وهواه.
في الفصل الثاني والمعنون بـ "جريمة وعقاب"، يؤكد الكاتب أن السياسات الخارجية التي تنتهك الفهم المعاصر للعدالة أقل احتمالا أن تنجح مقارنة بالتي تتوافق معها. علما أن أكثر السياسات الخارجية التي تنتهك القانون الدولي هي الحروب والتدخلات غير الشرعية. يستعرض الكاتب الحروب التي اندلعت منذ عام 1648، ويؤكد أن معظمها فشل في إنجاز الهدف السياسي الذي بسببه قامت هذه الحروب. بعد دراسة أسباب وأهداف الكثير من الحروب، يستنتج الكاتب أن الأخلاق لا تنحصر في داخل حدود الدولة القومية، بل يجب أن تُطبق وتُمارس في السياسات الخارجية أيضا.
في الفصل التالي "سياسات خارجية ناجحة"، يوضح الكاتب الصلة بين السياسات الناجحة والأخلاق. فهو يؤمن أن الحروب والتدخلات التي تكون ضمن دعم المجتمع الدولي ومن قبل أطراف متعددة، تكون أكثر نجاحا كونها تلتزم بالمعاهدات والاتفاقات الدولية. يتعرض الكاتب بالتفصيل لعدد من السياسات الخارجية التي يعتبرها أخلاقية وناجحة للغاية.
فهم الحياة أنها تراجيديا يجعل الناس أكثر تواضعا، ويجعل صناع القرار يتدبرون جيدا تبعات قراراتهم. وبما أنه لا يوجد شيء ثابت ومؤكد، فإن التراجيديا تجعل الناس يتفكرون قبل اتخاذ القرارات غير الأخلاقية، التي قد تعود بالضرر عليهم
فعلى سبيل المثال، مشروع مارشال لإعادة بناء أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، التي خلقت جوا من التضامن والتماسك في داخل أوروبا وخارجها، حيث إن أمريكا منحت أوروبا اثني عشر بليون دولار كمساعدة اقتصادية لإعادة بناء الاقتصاد الأوروبي. بطبيعة الحال أمريكا حافظت على ولاء أوروبا لها وألا تصبح ضمن المعسكر السوفيتي. ومن ثم هذه المساعدة الأمريكية لأوروبا كانت مصلحة قومية أمريكية وقرارل أخلاقيا في الوقت نفسه، مما يعني عدم التناقض بين الأخلاق والمصلحة القومية. يؤكد الكاتب أن السياسات الأخلاقية لا تمنع النزعات ولا تمنع الحروب، لكن السياسات الأخلاقية التي تتبعها العديد من الجهات الفاعلة ضمن التقاليد والأعراف الدولية والقانونية، تستطيع أن تنجح في القيام بالأمرين.
في الفصل التالي المعنون بـ "صنع السياسات"، يبين الكاتب كيفية صنع السياسات وكيف أن عدم مشاركة الآخرين ووجهات النظر المُختلفة، يؤدي إلى إشكاليات في السياسة الخارجية بسبب ضيق الأفق في اتخاذ القرارات. يتعرض الكاتب لغزو العراق في عام 2003 وكيف أن الإدارة الأمريكية كما هو الحال مع المخابرات، بنوا قراراتهم على فرضيات غير مؤكدة ومثيرة للجدل، حتى إن أي شخص كان يطرح أفكارا تعارض الغزو الأمريكي للعراق في داخل الإدارة الأمريكية، كان يهمش ويعزل من منصبه.
لقد كان الحافز لغزو العراق من إدارة جورج بوش مُتحيزا، ويعكس الغطرسة والتبجح بحسب الكاتب. الضغط الوحيد الذي كان وراء هذا الغزو كان من داخل إدارته فقط، ولم تكن هناك استراتيجية لأي بعد سياسي أو اقتصادي داخلي لتبعات قرار غزو العراق. لذا فالكاتب يؤكد أن القرارات السياسية سيما الخارجية، يجب أن تتناسب مع المجتمع الدولي والمؤسسات الدولية، وألا تكون مبينة على وجهة نظر ضيقة كما هو الحال مع غزو العراق.
في خلاصة الكتاب، يبين المؤلف أنه يقدم رؤية جديدة للسياسة الخارجية اعتمادا على فهم الحياة على أنها تراجيديا، حيث إن الحياة قابلة لأن تكون تراجيديا بأي لحظة ولأي دولة. فهم الحياة أنها تراجيديا يجعل الناس أكثر تواضعا، ويجعل صناع القرار يتدبرون جيدا تبعات قراراتهم. وبما أنه لا يوجد شيء ثابت ومؤكد، فإن التراجيديا تجعل الناس يتفكرون قبل اتخاذ القرارات غير الأخلاقية، التي قد تعود بالضرر عليهم كما هو الحال في غزو العراق، حيث إن صورة أمريكا تراجعت بالعالم لتصبح واحدة من أسوأ الدول في نظر معظم الناس في العالم بحسب الكاتب.
التراجيديا تحذرنا أيضا من الغطرسة والاستعلاء، حيث إن هذه الصفات تدمر الأشخاص والشعوب، فكم من شعب متغطرس خسر وانهار. في نهاية الكتاب ينتقد الكاتب الحداثة الغربية التي أرادت تحرير الفرد من التقاليد والقيود وجعلته مفرط الثقة بالنفس، لذا فهناك حاجة لاستحضار التراجيديا لتذكرنا بحدودنا ونقاط ضعفنا.
لا شك أن هذا الكتاب يٌقدم منظورا جديدا في فهم العلاقات الدولية، وكيف أن الاهتمام بالأخلاق له فوائد أكثر مما يظن المرء. لكن هناك الكثير من النقاط التي يجب ذكرها: أولا: هناك تهميش وإهمال لدور الدين في هذا الصدد، حيث إن الكثير من الأخلاق أصلها الدين، لكن في هذا الكتاب لم يتم التعرض لأي دور للدين، علما أن الكاتب يهودي.
ثانيا: الكاتب يعيد أصل الأخلاق للتراث اليوناني، وتحديدا لنوع أدبي معين من الكتابات يُسمى التراجيديا. والسؤال: هل من كتبوا هذا التراث كانوا يفكرون بمساهماتهم كمساهمات ذات طابع أخلاقي؟ قد تكون الإجابة بكل بساطة لا. ومن ثم فإن الكاتب يُحمّل هذا التراث اليوناني ما ليس فيه، ليثبت وجهة نظر أن التراجيديا هي أقدم إطار أخلاقي عرفته البشرية كما يدعي. ثالثا، حتى لو سلمنا بأن التراجيديا هي مصدر للأخلاق، فلا شك أنها لا تشكل بأي حال من الأحوال نظاما أخلاقيّا مُتكاملا ومتناسقا، ليتم تطبيقها كإطار نظري لتحليل العلاقات الدولية وفهمها.
في النهاية، ريتشارد نيد ليبو، بنى نظريته للأخلاق والعلاقات الدولية على نوع من الأدبيات المُبعثرة وغير المتناسقة، فكيف سيكون حاله لو أنه اطلع على بعض المساهمات الأخلاقية في الحضارة الإسلامية مثل كتاب أبو الحسن الماوردي "أدب الدنيا والدين"، وكتاب العز بن عبد السلام "شجرة المعارف والأحوال وصالح الأقوال والأعمال"، وكتب الغزالي مثل "ميزان العمل"، وكتاب الراغب الأصفهاني "الذريعة إلى مكارم الشريعة"، وابن أبي الدنيا "مكارم الأخلاق"، وابن مسكويه "تهذيب الأخلاق"، والقائمة تطول في هذا الشأن؟!
*باحث مُشارك في مركز دراسات الإسلام والشؤون الدولية بجامعة إسطنبول "زعيم" ومحاضر في قسم العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالجامعة نفسها.