تعد كلمة المؤرخ ومؤسس علم الاجتماع، عبد الرحمن بن خلدون: "الظُّلْمُ مُؤْذِنٌ بِخرابِ العُمْران" من أحكم وأوجز ما قيل في عاقبة الفساد بكل أنواعه؛ فسادِ السياسة، أو توزيعِ الثروات، أو الفسادِ الإداري، أو الفسادِ القانوني، وفسادُ التقاضي أخطر ما يهدد عمران أي دولة أو مجتمع.
ما ذكره العلاّمة ابن خلدون ليس مجرد جملة منحوتة ببلاغة فائقة، تراعي البعد الجمالي في اختيار الألفاظ، بل هي، بالإضافة لجمالها اللغوي، حقيقة اجتماعية شديدة الدقة. فالاجتماع البشري (قبل نشأة الدول بصورتها الحالية) كان يقوم على التراضي داخل الجماعة؛ فتتوزع الأعباء والحاجات بالقدْر الذي لا يُحدِث اضطرابا داخلها، ولهذا عاشت قبائل لمئات السنين بصورة بدائية لكنها عادلة. ففي منطقتنا العربية عاشت قبيلة قريش لمئات السنين، وقبيلة تميم كذلك، وغيرهما من القبائل التي ضربت في جذور التاريخ كمجتمعات مستقرة اجتماعيا وإداريا وإنْ بصورة بدائية، ولا يمكن تصور حصول هذا القرار إلا بالعدل بين أبناء هذا المجتمع.
ثم نشأت الدول والإمبراطوريات، وبقدر ما كانت تسود العدالة داخل هذه الدول بقدر ما كانت تستمر وتتمدد جغرافيا، وبقدر ما يدخلها الشقاق والفساد، فإنها تندثر ويزول سلطانها.
وأخيرا تشكّلت الدول بشكلها الحالي، وقامت على أركان أساسية، أهمها ما ذكره الفرنسي مونتسكيو (مبدأ الفصل بين السطات) في منتصف القرن الثامن عشر، وهو المبدأ المستقر قرابة أربعة عقود حتى الآن، وتقوم فكرته الأساسية على أن السُّلْطات داخل الدولة تنقسم إلى ثلاث سلطات، تشريعية (البرلمان)، وتنفيذية (الحكومة)، وقضائية.
تقسيم مونتسكيو هو التقسيم المقبول في أرجاء المعمورة كضمان ديمقراطي، بألا تتغول سلطة على أخرى فيحدث اختلال في المجتمع، ولكن حدث تمييز مهم للغاية في تلك العملية؛ فمن المقبول ديمقراطيا أن يحدث مزج بين سلطتي التشريع والتنفيذ، وتكون صورة هذا المزج واضحة في النظم البرلمانية، فيقوم المجتمع بانتخاب ممثليه، ويقوم الممثلون بتشكيل الحكومة وهي جهاز التنفيذ، فأصبحت السلطتان مجموعتين في جهة واحدة، لكن تبقى السلطة القضائية بعيدة تماما عن أي جماعة سياسية حاكمة على طول الخط، فإذا اسْتَبَدَّتْ الحكومة قام
القضاء بردعها، وإذا افْتَأَتَتْ السلطة التشريعية على الدستور، يقضي القاضي ببطلان هذا الافتئات، فيأنس المجتمع إلى وجود عاصم له من الجمع بين السلطتين، إذا حدث استبداد. فالجمع بين سلطتي التشريع والتنفيذ مقبول، لكن من غير المقبول أبدا أن يكون هناك أي سلطان على هيئة التقاضي.
هذه التقسيمات ليست من قبيل التنظير الحالم أو المثالي، بل مسّت الواقع وخالطت شِغافه، فأصبحت بمثابة قانون اجتماعي وسياسي غير قابل للكسر، إلا أن المستبدين لا يرضون بأي منازعة لهم في سلطانهم؛ فما برحوا يبذلون غاية وسعهم في حيازة كل سلطة، وقمع كل مخالفة لتوجههم، فجمعوا السلطتين التشريعية والتنفيذية بذريعة الديمقراطية، رغم تزويرهم للانتخابات، ثم عمدوا إلى السلطة القضائية وأفسدوها بالإغراءات تارة وبالعقوبات تارة أخرى. ولانَتْ سُلْطات في دول وصمدت أخرى.
لم يختلف الحال في مصر عن باقي الدول التي ترزح تحت حكومات مستبدة، فبدءا من انقلاب تموز/ يوليو 1952، قام الحاكم العسكري بإنشاء محكمة أسماها محكمة الشعب، وكان يرأسها عسكري لا علاقة له بالقانون المدني، وحصلت محاولات مريرة لكسر إرادة القضاء المصري المستقل الشامخ،
لم يختلف الحال في
مصر عن باقي الدول التي ترزح تحت حكومات مستبدة، فبدءا من انقلاب تموز/ يوليو 1952، قام الحاكم العسكري بإنشاء محكمة أسماها محكمة الشعب، وكان يرأسها عسكري لا علاقة له بالقانون المدني، وحصلت محاولات مريرة لكسر إرادة القضاء المصري المستقل الشامخ، الذي ورث العِزّة والحيادية جيلا عن جيل. وتكفيك كتب التاريخ في الحديث عن القضاة في مصر من كل المذاهب الإسلامية، وحتى بعد حكم محمد علي. ورغم كل محاولات كسر القضاة فإنها باءت بالفشل، حتى في التاريخ القريب لا يمكن نسيان هبة القضاة عام 2006، والدعم الشعبي لهم، ومشاركة مصريين في التظاهر جنبا إلى جنب مع حماة القانون والسِّلم الأهلي، وهي الهبّة التي سُجِن فيها الرئيس الراحل محمد مرسي خلال تظاهره دعما لهم.
انقلب العسكر للمرة الثانية على الحكم، وفي شهر تموز/ يوليو أيضا بعد 61 عاما من الانقلاب الأول، وواجهوا مشكلة استقلال القضاء، لكن بدرجة أقل؛ إذ عمد نظام الرئيس الراحل مبارك إلى حيلة خبيثة، فسمح بدخول أعضاء جهاز الشرطة إلى القضاء، وكان يخرج الضباط إلى منصات القضاء محمولين بثقافة الجهاز وتعامله مع المواطنين، ولم تترسخ في جوانحهم مهنية القاضي ولا دوره الرسالي، فكانت مهمة نظام السيسي أسهل من سابقيه، فقد ورث عملية متراكمة لعقود وآتت بعض ثمارها.
في كانون الأول/ ديسمبر 2013، عقب الانقلاب بأشهر معدودة، قام النظام الجديد بتشكيل ست دوائر من محاكم الجنايات للنظر في قضايا "الإرهاب"، وصدر التشكيل بسبب "تكرار تنحي القضاة عن النظر في القضايا المسندة إليها في هذه الأمور"، ومن هنا بدأ الانحراف الكبير الذي لوّث بياض ثوب القضاء الناصع.
لما عجز الانقلاب عن توجيههم بشكل كامل، اكتفى بمن ضمن ولاءهم ممن باعوا آخرتهم بدنياهم، فسمعنا عن قاضٍ يحكم بالإعدام على 1000 شخص نفس في قضية واحدة، وصدرت أحكام إعدام بالجملة على عشرات السياسيين، منهم سيدات
الإشارة المهمة هنا، أن سبب التشكيل مرتبط بنزاهة عموم القضاة ورفضهم أن يكونوا أداة في يد النظام الجديد، فالقضاء لا يزال يحتفظ بجوانب النقاء فيه. ولما عجز الانقلاب عن توجيههم بشكل كامل، اكتفى بمن ضمن ولاءهم ممن باعوا آخرتهم بدنياهم، فسمعنا عن قاضٍ يحكم بالإعدام على 1000 شخص نفس في قضية واحدة، وصدرت أحكام إعدام بالجملة على عشرات السياسيين، منهم سيدات.
آخر هذه الجرائم المتلبسة في ثوب القضاء، صدور أحكام نهائية "حضورية"
بالإعدام على بعض قيادات جماعة الإخوان، وهي أحكام لا تقبل الطعن عليها بأي وجه، وبات أهل هؤلاء المعتقلين بانتظار تنفيذ أحكام الإعدام عليهم في أي لحظة. والنظام الذي لم يتورع عن إعدام مواطنين في رمضان، في سابقة لا نظير لها، لن يتورع عن فعل أي شيء مع خصومه السياسيين، خاصة مع شخصية وطنية شرسة في مواجهتهم مثل الدكتور محمد البلتاجي.
النظام الذي لم يتورع عن إعدام مواطنين في رمضان، في سابقة لا نظير لها، لن يتورع عن فعل أي شيء مع خصومه السياسيين، خاصة مع شخصية وطنية شرسة في مواجهتهم مثل الدكتور محمد البلتاجي
إن ما قام به السيسي ولا يزال يقوم به على كل الصُّعُد السياسية (داخليا وخارجيا)، والاجتماعية، والقانونية، والاقتصادية، والعسكرية، شديد الخطر على سلامة هذا الوطن وبقائه، فلا عدالة في توزيع الثروات، ولا عدالة قانونية، ولا عدالة سياسية، وهناك تقسيم اجتماعي ممنهج ومستمر يقوم به منذ اللحظة الأولى، وأخيرا وضع المؤسسة العسكرية بتاريخها المميز مع الشارع المصري في حالة توتر ملحوظ، فأصبح
الظلم عنوان المرحلة.
ولعل أفضل ما قيل عن ذيوع الظلم ما يُنسب قوله إلى أمير المؤمنين، سيدنا علي بن أبي طالب:
أمَـا والله إنَّ الظُّلْمَ شُـؤْمٌ ولا زال المُسيءُ هو الظَّلُومُ
إلى الدَّيَّانِ يومُ الدِّينِ نَمْضي وعند اللهِ تَجْتَمِعُ الخُصومُ
ستعلَمُ في الحسابِ إذا الْتَقَيْنا غَداً عندَ المَلِيكِ مَنِ الغَشُومُ
ونحن نعلم مِن قبل الحساب "مَن الغَشُوم" الذي اشتد ظلمه وبطشه، حتى قارب أن يدّعي فوقيته على جنس البشر، ونعلم من قبل الحساب مَن الظلوم ومَن المظلوم، ورغم مرارة الظلم وقبحه، فالمرء يتصبّر بعدل الآخرة التي يوقن أنها دار البقاء والخُلْد.
twitter.com/sharifayman86