عندما حطت راحلة الجنرال في هذا البلد الأفريقي المهم لإثيوبيا، انطلقت الجوقة في القاهرة تتحدث عن "الخطوة المباركة"، و"التصرف الحكيم" لرجل مخابرات، ومن يفهم مثل رجال المخابرات؟ وعلى أساس أنه بهذه الزيارة يخطط لحصار إثيوبيا ليكون وجهها للحائط!
الحديث عن "
العقلية المعملية الفذة" للمذكور، واحدة من عمليات التضليل الإعلامي التي يشارك فيها الجميع، بمن فيهم قوى الثورة على اختلافها، ربما لتبرير خيباتهم وفشلهم، فهم ضحايا لرجل مخابرات لعب بهم "كرة شراب"، دون توقف للسؤال عن الدور الوظيفي للمخابرات الحربية التي لم تكن منذ عام 1968 تعمل في الملفات الأمنية من هذا النوع أو قريبة منها، فدورها هو عمليات الضبط داخل القوات المسلحة. وكان جهاز مباحث أمن الدولة هو الذي يعمل على الأرض، فضلاً عن أن تعدد الأجهزة الأمنية لم يمنع من سقوط مبارك، والذي سقط مع وجود
السيسي رجل المخابرات، وقطعت
مصر علاقاتها بأفريقيا - على أهمية هذه العلاقة - في وجوده أيضاً!
وما لم يعرفه أصحاب "الخيبات الثقيلة" أن السيسي ليس برجل مخابرات في الأصل، فقد تولى منصب نائب مدير المخابرات الحربية لمدة عام، ثم أصبح مديرا قبل الثورة بسنة، فلم يلتحق بهذا الجهاز بعد تخرجه، لكنه صار في منصب أعلى يحول دونه ودون التعلم، وفق تقاليد القوات المسلحة، حيث أن القائد أو الأعلى رتبة هو جهة إصدار التعليمات، على نحو يمنعه من اكتساب خبرة اكتسبها بطبيعة الحال من كانوا يعملون في هذا الجهاز!
عملية الخداع الاستراتيجي، التي بدأت منذ التوقيع على اتفاقية المبادئ، فيخرج المصريون من خديعة ليدخلوا في أخرى، وكان آخرها التبشير بإعلان منسوب لإثيوبيا بتوقف عملية الملء الثاني، بدعوى أنه خضوع من إثيوبيا غير معلن، لتهديد مصري سابق برفض الملء الأحادي، وهي عملية تخدير وقتية
الحضور الإماراتي
وبسفر السيسي
إلى جيبوتي، فقد شطح خيال القوم ونطح، وقالوا إنها "ضربة معلم" لإجبار إثيوبيا على التوقيع على اتفاق ملزم لها بخصوص
سد النهضة، وإذا بالزيارة تستخدم في عملية الخداع الاستراتيجي، التي بدأت منذ التوقيع على اتفاقية المبادئ، فيخرج المصريون من خديعة ليدخلوا في أخرى، وكان آخرها التبشير بإعلان منسوب لإثيوبيا
بتوقف عملية الملء الثاني، بدعوى أنه خضوع من إثيوبيا غير معلن، لتهديد مصري سابق برفض الملء الأحادي، وهي عملية تخدير وقتية، فإذا انتهى مفعولها بعد يوم أو أكثر كان البحث عن مخدر جديد، فكانت زيارة السيسي لجيبوتي!
يُطلق على
جيبوتي رئة التنفس لإثيوبيا على البحر الأحمر، ولهذا كانت هناك استثمارات إماراتية لإقامة طرق لتسهيل استخدام إثيوبيا لسواحل جيبوتي المؤجرة أجزاء منها لموانئ دبي، لكن جيبوتي طردت الإمارات من هناك، إلى آخر ما جرى ووصل للتحكيم الدولي.
ومن هنا فهذا العمل كاشف عن حدود
العلاقة بين إثيوبيا والإمارات؛ التي لها ثقل كبير هناك، ثم إنها من الجهات التي تمول سد النهضة، وهي معلومة صارت رائجة إلى درجة أن أحداً لا يمكنه إنكارها. فقد توقف الموشح الإعلامي، الذي كان يتهم قطر بتمويل بناء سد النهضة، بدون اعتذار، ليتبين أن القوم لم تدفعهم الوطنية للعداء مع الدوحة نظراً لأنها تعمل ضد مصر، ووصلت من أجل هذا الهدف إلى منابع النيل، ولو كان المنطق صحيحا لهاجموا الإمارات بعد أن حصحص الحق، لكن مياه النيل ليست موضوعهم.
ليتبين أن القوم لم تدفعهم الوطنية للعداء مع الدوحة نظراً لأنها تعمل ضد مصر، ووصلت من أجل هذا الهدف إلى منابع النيل، ولو كان المنطق صحيحا لهاجموا الإمارات بعد أن حصحص الحق، لكن مياه النيل ليست موضوعهم
في المقابل، لا أستطيع لوم الإمارات، لأنها لا تعمل من وراء ظهر السيسي، وإذا كانت أحد ممولي سد النهضة منذ اليوم الأول، فلأن هذا بعد توقيع الجنرال المفدى على اتفاقية المبادئ، الذي مثل توقيعه موافقة مصر كتابة على بناء السد. وكانت العلاقة بين أبو ظبي والقاهرة في أوجها بينما ابن زايد يمول بناء السد الذي سيدمر مصر، ولم تطلب منه القاهرة أي وساطة مع الإثيوبيين، أو حتى التوقف عن التمويل ولو من باب المناورة لصالح الأشقاء، ومن هنا نكون قد وصلنا إلى بيت القصيد!
هناك من قرروا أن فتوراً في العلاقة بين البلدين، بسبب صداقة محمد بن زايد لآبي أحمد، لكن السؤال: وهل السيسي في عداء مع رئيس الوزراء الإثيوبي؟!
وها هي قطر التي كان إعلام القاهرة الممول من الإمارات يتهمها بتمويل سد النهضة؛ تعرض الوساطة للتدخل في أزمة السد الإثيوبي، وتجعل منه موضوعاً للمناقشة على مستوى وزراء الخارجية العرب، فهل القاهرة يمكن أن تشكر لها هذا المسعى؟!
للإجابة على هذا السؤال، لا بد من الإجابة على سؤال آخر: وما هي طلبات القاهرة على وجه التحديد من الوسيط القطري لتكون هناك رغبة مصرية لنجاح الوساطة؟ إلا إذا كان الأمر يمكن أن يستخدم في مهمة تخدير المصريين لبعض الوقت، إلى حين أن تنتهي إثيوبيا من بناء السد تماماً، لتكون الوساطة صفحة في ملف إضاعة الوقت.. ألم تر كيف استخدمت مناورة الجيشين المصري والسوداني لتعزيز فكرة التخطيط لتلقي السد ضربة عسكرية قادمة لا ريب فيها؟ فهل هناك أحد الآن يتحدث عن مناورة حماة النيل؟ وهل هناك إجابة لماذا كانت، ما دام الأمر سينتهي إلى لا شيء؟!
"إنه الرئيس"
وفي سياق إطلاق الخيال ليشطح وينطح، كانت زيارة جيبوتي التي لا نعرف أهدافها، وكثير من زيارات السيسي الخارجية هي من أجل إثبات شيء واحد وهو أنه رئيس باعتراف دولي أو إقليمي، فلا توقيع لاتفاقات اقتصادية وتبادل تجاري، ولا يصطحب معه رجال أعمال في زياراته لفتح آفاق الاستثمار والتعاون، فلا تشغله إلا شرعيته، ولو بإظهار قادة الدول الود في اللقاء الذي يجمعه بهم، وكأن الأصل في الأشياء أن يكدره رؤساء هذه الدول، وفق المفهوم العسكري لعملية "التكدير"!
كانت زيارة جيبوتي التي لا نعرف أهدافها، وكثير من زيارات السيسي الخارجية هي من أجل اثبات شيء واحد وهو أنه رئيس باعتراف دولي أو إقليمي، فلا توقيع لاتفاقات اقتصادية وتبادل تجاري، ولا يصطحب معه رجال أعمال في زياراته لفتح آفاق الاستثمار والتعاون، فلا تشغله إلا شرعيته
في كل زيارة خارجية له، أو كل لقاء مع أي من قادة الدول الأخرى معه في مصر، يعرب عن سعادته لهذا اللقاء الذي جمعه بالشقيق، ولا شيء عن مباحثات عقدت، أو مداولات حول قضية معينة تمت، أو اتفاقات أبرمت.. فقط يعرب عن سعادته!
ونفس الأمر حدث بعد لقاء رئيس جيبوتي، فلم يتم الإعلان عن الموقف من موضوع الساعة، وما تعهدت به جيبوتي في موضوع سد النهضة، فهذا يترك للمحليين الذين يصورون العلاقات الدولية كما لو كانت عملاً من أعمال المخابرات، تستوجب السرية، فمن المؤكد عندهم أن هناك اتفاقات سرية تمت. وإذا كان السيسي عقلية مخابراتية، فهل من يلتقيهم من قادة الدول الصديقة يخفون موضوع الزيارات أيضاً عن شعوبهم، باعتبار أنها عمل مخابراتي بالغ السرية؟!
إن الهدف من هذه التحليلات شديدة البؤس هو العمل على خداع الشعب المصري، وايهامه بأن هناك حلولاً لأزمة السد، وأن "القائد الضرورة" لا يألو جهداً من أجل حل المشكلة.
لقد أعلن
اثنان من السفراء المنحازين للانقلاب العسكري في اليوم الأول؛ أن جيبوتي لن تقوم بأي دور إلى جانبنا إلا دور الوساطة الحميدة، فلا توجد دولة أفريقية إلا السودان يمكن أن تقف مع مصر وضد إثيوبيا في مسألة المياه، بحسب رأي سفير مصر السابق في جيبوتي. وقال السفير محمد مرسي: "لا أشعر بارتياح للربط المباشر بين الزيارة وسد النهضة ورفع سقف التوقعات الخاصة بأزمة السد، فما يربط جيبوتي من مصالح مع إثيوبيا يفوق ما يربطها بمصر".
الهدف من هذه التحليلات شديدة البؤس هو العمل على خداع الشعب المصري، وايهامه بأن هناك حلولاً لأزمة السد، وأن "القائد الضرورة" لا يألو جهداً من أجل حل المشكلة
لكن كلام الغوغاء سواء في الإعلام أو عبر منصات التواصل الاجتماعي غطى على هذا الكلام العاقل والمنطقي، ولم يمر على هذه الزيارة لإثيوبيا الكثير من الوقت، فهل لا يزال هناك أحد يذكرها، أو هناك من يسأل عن جدوى هذه الزيارة، وقد وقعت جيبوتي مع إثيوبيا اتفاقاً عسكرياً بعدها، لتصبح زيارة فاشلة بكل المقاييس إذا كان هدفها احتواء جيبوتي للوقوف مع مصر ضد إثيوبيا؟!
وليقودنا هذا إلى سؤال مهم: وهل مصر (ممثلة في سلطة الحكم) ضد إثيوبيا فعلا، بسبب التعنت في موضوع السد الإثيوبي؟!
لقد قال وزير الخارجية المصري
في الدوحة: إن إثيوبيا خالفت اتفاق المبادئ، ليكون السؤال: ولماذا لا ترد مصر على ذلك بالانسحاب من الاتفاق، فيفقد السد شرعية وجوده؟
إن ما يسعى إليه "الحاكم الضرورة" هو اتفاق يحفظ له ماء الوجه؛ على سنوات الملء. وهكذا تقلصت الأحلام، فبدلاً من الرفض التاريخي المصري لعملية بناء أي سدود من الأساس، صار السد قدراً..
وبدلاً من الاتفاق على حصة مصر التاريخية من مياه النيل، صار اللف والدوران حتى لا تتعرض مصر لمخاطر كبيرة، مع التسليم بوقوع الضرر..
وبدلاً من أن يتم الاتفاق على شركة فنية تقوم على عملية البناء والتصميمات، تم تجاوز هذا البند المنصوص عليه في اتفاق المبادئ، والمقيد بموافقة الدول الثلاث، وصار السد بحالته الحالية قدراً!
وبدلاً من سد واحد، كان الإعلان الإثيوبي عن
مائة سد ما بين صغير ومتوسط!
وبدلاً من أن سعة السد كانت 14 مليار متر مكعب، وكانت مصر مع هذا ترفضه، صار السد "الأب" يتسع لأكثر من 74 مليار متر مكعب، ومقررا له أن ينجب مائة سد ما بين صغير ومتوسط!
ولتتقلص كل الأحلام في سنوات الملء، ولا يعلن الطرف المصري بشكل رسمي ما هي مطالبه هو وما هو القرار الإثيوبي. ويستهدف عدم الإعلان أنه إذا وافقت إثيوبيا على أي شيء يقال إنه الرضوخ لمطلب مصر!
لقد سافر إلى جيبوتي ومن حق الشعب أن يسأل: ماذا كان يفعل هناك؟!
ليثبت أنه رئيس؟ لماذا لا يريد أن يصدق أنه رئيس؟!
twitter.com/selimazouz1