إذا كانت أحد أهم صفات القائد العظيم أن يكون "قوي العزم على الشيء الذي يرى أنه ينبغى عليه فعله"، فقد أثبتت قيادة
المقاومة أنها تحمل من هذه الصفة ما يفوق ما فيها من فصاحة لغوية، إن على مستوى قوة العزم أو على مستوى رؤية ما ينبغى فعله.
والعزم كما يصفونه هو "الرأي على العقل"، وبذلك يكون ما نراه ونسمعه ونكاد نعيشه في
فلسطين كلها هذه الأيام هو عين الرأي في عين العقل في عين الوقت، وعليه فسيكتب التاريخ في أوراق أيام الذكرى الـ73 من "النكبة" أن ثمة قرارا تاريخيا تم صنعه واتخاذه وتنفيذه بعد أن اختمرت كل عجائنه في وعاء استراتيجي كبير، وهو الشيء الذي لم تعهده الأمة منذ وقت طويل. وليس أروع من "الوقت الصحيح" إلا من التقط فرصة الوقت الصحيح، فقام ونهض وفعل ما ينبغي عليه فعله.
* * *
".. هذه الجولة لم تبدأ بسبب شيء ما حدث في غزة، كما كان يحدث من قبل، ولكن سبب ما حدث كان في مكان بعيد.. في
القدس، وهذا بالضبط ما أرادت حماس أن ترفعه عاليا في سماء الصراع: لم يعد هناك فصل بين غزة والقدس، شعب واحد وقدس واحدة، ولن يقاتل المقدسيون بمفردهم، سنكون معكم، حتى لو كانت أيادينا مكبلة..".
تقريبا كان هذا مفاد ما قاله أحد الخبراء
الإسرائيلين في وصفه لما يحدث الآن في فلسطين، لكنه أشار إلى ما هو أكثر رعبا، وسوف يجيء كما قال شاعرنا الحزين الراحل صلاح عبد الصبور.. قال: إن هذه المعادلة معناها أن تصبح غزة ضمن الاعتبارات الإسرائيلية كلما عملت بطريقة أو بأخرى في القدس، والكارثة أن إسرائيل لا تستطيع تحمل ذلك، لأن ذلك يعني أن كل خطوة لها في القدس، ستفتح عليها الصواريخ من غزة.
إسرائيل أصلا تشتغل من زمن طويل وبتنسيق أمني متكامل مع سلطة عباس على الفصل التام بين غزة والضفة والقدس، وجاءت حماس في الوقت الصحيح وبالطريقة الصحيحة لتقول عكس كل ذلك، وإبلاغ العالم كله - وبالطبع إسرائيل والمنطقة - أنها صاحبة القول في القدس، وأي ضرر يلحق هناك (القدس) سيتم الرد عليه من هنا (غزة).
وهذه المعادلة الجديدة لا تستطيع إسرائيل التعايش معها، فهذا يعني أن تصبح حماس عقل وقلب وصوت القضية الفلسطينية كلها وفي القلب منها القدس، وهذا يشكل خطراً حقيقيا على إسرائيل. ويكفي أن نعلم أن الدنيا كلها - وليس إسرائيل فقط - اجتمعت على منع حدوث ذلك، لكنه حدث ويتشكل الآن وفي طريقه للاكتمال التام.
* * *
بين حماس وبين الكلمة الأخيرة في هذه الجولة محطة واحدة كما يقولون، وكل المشاهد تشير إلى ذلك، فاستمرار القصف فوق رأس تل أبيب وكبريات المدن لأيام قليلة أخرى يعني أن "إسرائيل" ستتراجع. كل المعطيات تقول ذلك: تصدع سياسي يزداد كل يوم قد يؤدي إلى انتخابات خامسة، وخسارة اقتصادية لم تحدث في عدوانها المتكرر على غزة طوال العقدين الماضيين في كافة المجالات وتقدر بمليارات الدولارات.. غلق المطارات وتعطل حركة السفر، والإعلان عن تشغيل الاقتصاد في حالة الطوارئ لتمكين الاستمرارية الوظيفية له في حالة الحرب، والحفاظ على توفير الخدمات الأساسية للسكان.
أن تأخذ المقاومة إسرائيل إلى حرب طويلة وداخل عمقها السكاني تكون قد كسبت وانتصرت والباقي تفاصيل صغيرة. ستفعل إسرائيل في أهل غزة مثل ما فعلته ألمانيا في أهل لندن بين أيلول/ سبتمبر 1940م إلى أيار/ مايو 1941م.. قصف البيوت والمنازل والمستشفيات ومحطات المياه والكهرباء..
أذكر أن يوري أفنيري (1923-2018م) كان قد كتب مقالا وقت عدوان 2014م في وصفه للغارات الإسرائيلية على المدنيين في غزة مقارنا بينها وبين الغارات الألمانية الشهيرة، وقال: كيف سيبدو التاريخ إذا تمت كتابته على طريقة عملية "الجرف الصلب"؟ الاتهامات التي تكيلها إسرائيل إلى المقاومة الفلسطينية في غزة بأنها تعرض حياة الناس للموت وتستخدم المدنيين دروعا بشرية تصبح اتهامات مشروعة عندما تفرض الحرب. ونستون تشرتشل وضع أهل لندن تحت رحمة قصف الطائرات الألمانية مستخدما المدنيين كدروع بشرية في تلك الحرب المجنونة. وأضاف أنه في الوقت الذي كان يتعرض فيه المدنيون للقصف بدون "قبة حديدية"، كان تشرشل يختبئ في مخبئه تحت 10 داوننج ستريت واستغل كل سكان لندن كرهائن، وعندما عرض الألمان "هدنة" رفضها مسببا معاناة لم يكن أحد يتصورها لشعبه.
لكن مع ذلك كان الطيارون الألمان رحماء بالشعب البريطاني، فقد كانوا يضربون الأهداف العسكرية ويستهدفون منازل الضباط الإنجليز فقط، وقد وجهوا نداءاتهم لأهالي لندن بإخلائها، لكن تشرتشل كان يدعوهم إلى البقاء في منازلهم وهم استجابوا لطلبه، وفي النهاية هُزم هتلر وعاش أهل لندن.
* * *
الصحفي الإسرائيلي الشهير عوزي بنزيمان، مؤلف الكتاب الأشهر "مدينة بلا أسوار"، مشيرا إلى القدس، قال معلقا ذات يوم على إعلان القدس عاصمة موحدة لإسرائيل: إن الفعل الدراماتيكي الحاسم المتمثل بـتوحيد القدس والذي يقف منذ 50 عاما عائقا غير قابل للتجاوز في الصراع العربي الإسرائيلي هذا الفعل لم يكن نتيجة تخطيط استراتيجي أو تحقيقا لمصلحة قومية أو اعتبارا موزونا بعيد المدى أو حتى حاجة أمنية حيوية.. بل نتيجة تراكم "حالة مزاجية" لدى عدد قليل من متخذي القرارات في الحكومة والجيش لإحداث تغيير متطرف في واقع الشرق الأوسط..
الجيش الإسرائيلي استلهم عنوان الكتاب فيما يبدو في تسمية عمليته العسكرية "حارس الأسوار"، وليكون الرد الفلسطيني من ذات المعنى ويطلق على زخات الصواريخ في عمق الاحتلال "سيف القدس". وبذلك يكون الجميع قد اتفقوا على "ماهية الصراع" دونما لجلجة ولا جلجلة بعيدة عن أرض الموضوع، وبذا تكون سطور التاريخ قد أعادت ترتيب نفسها في سياقها المتسلسل لتتواصل مع ما قاله الجنرال الإنجليزي اللنبي (1861-1936 م) حين دخل القدس عام 1918 م قائلا: "اليوم انتهت الحروب الصليبية" أو حتى إلى ما قاله بعدها بثلاثة أعوام الجنرال الفرنسي هنري جورو (1867-1946م) حين دخل دمشق وذهب إلى قبر صلاح الدين قائلا: "ها قد عدنا يا صلاح الدين".
* * *
تقول الحكاية إن
اليهود في أرجاء العالم باتوا يرون أن مخاطر العيش في إسرائيل أكبر من أي مخاطر أخرى قد تتهددهم في الخارج، وتقول الأخبار إن 70 في المئة من اليهود الأمريكيين لم يزوروا إسرائيل ولا يعتزمون زيارتها أصلا، ونصفهم لا يهمهم إذا زالت إسرائيل من الوجود، وتقول أيضا إن نسبة الهجرة العكسية لليهود إلى الخارج تزايدت في السنوات الأخيرة بشكل ملحوظ، والذي يظهر في سعي أعداد متزايدة من الإسرائيليين للحصول على جوازات سفر أوروبية لاستخدامها في الفرار عند الحاجة إلى ذلك، وهو ما أثر سلبا على الروح المعنوية للشعب اليهودي وعلى مدى استعداده للتطوع للخدمة العسكرية والقتال والتضحية والمخاطرة بالنفس من أجل سلامة "الوطن"، فضلا عن أنها تؤثر سلبا على فكرة وحدة الجماعة اليهودية في الدولة اليهودية.
نهاية إسرائيل على عتبات الأبواب.. إنه الصبح القريب.
twitter.com/helhamamy