ما جرى طوال شهر رمضان من حالة مقاومة شعبية في
القدس وما أقدمت عليه
غزة من مساندتها؛ أمر يعد نقطة فاصلة في تاريخ القضية
الفلسطينية. ما حصل من حالة المبادرة التي قامت بها
المقاومة في غزة لإسناد المقاومة الشعبية بالمقاومة العسكرية أمرٌ يعيد تشكيل ميزان الردع، ولا نقول هنا إنه رجح بالكامل لصالح الطرف الفلسطيني، فدولة
الاحتلال التي تسخّر ضرائب الشعب الأمريكي وضرائب الشعوب الأوروبية التي تُمنح لها لاستمرارها في امتلاك أعتى ترسانة عسكرية في المنطقة.
لكن ما حققته المقاومة العسكرية من فرض تراجع الاحتلال وانسحابه بمخطط التقسيم المعنوي، والذي تمثل بمنع مسيرة المتطرفين الصهاينة من جماعة المعبد وعدم إتمامهم لطقوس القراءات التوراتية في ساحات الأقصى، تمهيدا لتقسيمه زمانياً ومكانياً لإحلال الهيكل المزعوم مكانه.. يعد هذا الأمر انتصاراً لا تقدر عليه المقاومة الشعبية لوحدها التي خاضت المعركة منذ بداية شهر رمضان بشكل سلمي، إلا أن درجة القمع وإرهاب دولة الاحتلال المنظم الذي تعرضت له دفعها للاستغاثة بغطاء عسكري.
إن رؤية الطرف الإسرائيلي يتراجع عن مساندته بالقوة العسكرية والشرطية لجماعة المعبد، كذلك رؤية مطار اللد والحياة الاقتصادية تتعطل في دولة الاحتلال، كذلك محاولة فرض ميزان الرعب ونزول المحتلين للملاجئ؛ أمور تحسب للمقاومة الفلسطينية في ميزان الردع الذي كان مختلاً بشكل كبير منذ توقيع
اتفاقية أوسلو المذلة وما تلاها من نتائج ومآلات التطبيع الرسمي العربي، واستهانة المجتمع الدولي بحقوق الشعب الفلسطيني ومحاولة تمرير صفقة القرن التصفوية التي مثلت دوساً على كل القوانين والاتفاقيات الدولية التي كانت تضمن جزءا من حقوق الفلسطينيين وليس كلها.
أثبتت المقاومة الفلسطينية أن محاولة التدجين الطويلة التي اقترفتها السلطة عبر عملية التسوية السياسية منذ ربع قرن؛ لم تجدِ نفعاً في تصفية آمال وطموحات الشعب الفلسطيني بالتوحد في مواجهة الاحتلال وفرض حضوره وكلمته على المستوى المحلي والإقليمي والدولي
أثبتت المقاومة الفلسطينية أن محاولة التدجين الطويلة التي اقترفتها السلطة عبر عملية التسوية السياسية منذ ربع قرن؛ لم تجدِ نفعاً في تصفية آمال وطموحات الشعب الفلسطيني بالتوحد في مواجهة الاحتلال وفرض حضوره وكلمته على المستوى المحلي والإقليمي والدولي، فتلك الأطراف كانت تسمع وتشاهد بالبث المباشر قمع الفلسطينيين في القدس إلا أنها لم تتحرك رغم مطالبتها بذلك، إلا حينما انطلقت العملية العسكرية للمقاومة الفلسطينية حيث بادرت تلك الأطراف لأخذ أحداث قمع الفلسطينيين على محمل الانتباه الدولي.
مثلت السلطة الفلسطينية طرفاً غائباً في ظل تلك الأحداث التي وحدت فلسطين التاريخية، فانطلقت الانتفاضة الفلسطينية على امتداد مدن فلسطين التاريخية بزخم أكبر في الأراضي الفلسطينية المحتلة لعام ١٩٤٨م وساحة حرب شاملة في قطاع غزة، وانطلقت بشكل بطيء في الأراضي المحتلة التي تقع تحت سيطرة السلطة الفلسطينية.
كل هذا مرده إلى أن أجهزة التنسيق الأمني التابعة للسلطة الفلسطينية تشارك في قمع الهبات الشعبية لصالح ضمان أمن دولة الاحتلال، حسب اتفاقيات التنسيق الأمني الملحقة باتفاقية أوسلو المهينة للجانب الفلسطيني. ويُلاحظ أن الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة قمعت أكثر من مسيرة في مدن الضفة خاصة في جنين، على خلفية رفع أعلام حركة المقاومة.
تمسك السلطة الفلسطينية بحالة الفصل السياسي والجغرافي والنضالي التي كرسها الاحتلال الإسرائيلي بحالة التقسيم الجغرافي لغزة والضفة والقدس وأراضي عام ١٩٤٨ والشتات؛ هو دليل على عمق أزمة انفصال السلطة الفلسطينية وقياداتها عن الشارع الفلسطيني
تمسك السلطة الفلسطينية بحالة الفصل السياسي والجغرافي والنضالي التي كرسها الاحتلال الإسرائيلي بحالة التقسيم الجغرافي لغزة والضفة والقدس وأراضي عام ١٩٤٨ والشتات؛ هو دليل على عمق أزمة انفصال السلطة الفلسطينية وقياداتها عن الشارع الفلسطيني في جميع أماكن تواجده، ودليل قاطع على أنها تلعب دور المراقب لما يحدث ولا تسعى لتقديم أدنى حماية للشعب الفلسطيني من انتهاكات الاحتلال، طالما هي توجه قمع أجهزتها الأمنية للداخل الفلسطيني وتسخر إمكاناتها لحراسة أمن الاحتلال، كي تحفتظ بمقعدها على طاولة مفاوضات يحول المنجز المقاوم لمجموعة امتيازات لقياداتها، دون أن ترقى للتوظيف السياسي اللازم لما يحدث في صالح المشروع التحرري الفلسطيني الشامل.
الوحدة وإنشاء قيادة موحدة للشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده أمرٌ مطلوب، كي يكون التوظيف السياسي لما تزرعه المقاومة على القدر اللائق، وفي سبيل ذلك السلطة الفلسطينية مطالبة بوقف العمل بالاتفاقيات مع إسرائيل بشكل فوري بما فيها اتفاقيات التنسيق الأمني المذلة.
كذلك السلطة الفلسطينية مطالبة برفع يد أجهزتها الأمنية عن مبادرات المقاومة الشعبية في مدن الضفة التي تريد أن تساند غزة في الحرب التي يشنها الاحتلال عليها، كذلك تماشياً مع رغبة الشارع في الضفة في الانضمام لمساندة القدس ومساندة مدن الداخل المحتل لعام ١٩٤٨ في انتفاضتهم الشعبية الواسعة؛ التي فاجأت كل محافل التقدير والتحليل الاستراتيحي التي كانت تعول على تدجين وأسرلة الفلسطينيين في الداخل المحتل.
الشعب الفلسطيني الحي يستحق قيادة سياسية ترتقي لمطالبه وتتعامل معه على أنه صاحب قرار ومبادرة، لا مجرد موضوع لاتفاقيات مذلة تحسن من شروط استمرار الاحتلال
الشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده أعاد عمليه التعريف عن نفسه، كذلك أعاد عملية معرفة نفسه وحسم قراراته المصيرية، فأثبت أنه عصيٌ على التنبؤ والقوالب والمخططات. وهذا يجب أن يحرج سلطة أوسلو بنفس المقدار وأكثر مما يحرج دولة الاحتلال، فالسلطة الفلسطينية طالبت بإجراء انتخابات في القدس فمثلت الهبة الجماهيرية والشعبية على امتداد فلسطين التاريخية عملية اقتراع واسعة على خيار الحسم العسكري، بعيداً عن مطاردة أوهام المسار السياسي الذي جر الخيبات والعمالة الداخلية في قيادات السلطة لدولة الاحتلال؛ في مشهد لم يسبق له أن حدث في تاريخ الشعوب المحتلة في العالم ومسار حركات التحرر الوطنية.
هذا الشعب الفلسطيني الحي يستحق قيادة سياسية ترتقي لمطالبه وتتعامل معه على أنه صاحب قرار ومبادرة، لا مجرد موضوع لاتفاقيات مذلة تحسن من شروط استمرار الاحتلال. فالحرب مع الاحتلال الإسرائيلي طويلة، ويحق للأجيال التي ورثت اتفاقية أوسلو عن جيل الهزيمة، خاصة بعد أن أثبت المسار السياسي فشله على كل المستويات، أن تعيد رسم المعادلة في مواجهة دولة الاحتلال، وكل الأطراف عليها أن تمتثل لاقتراع الفلسطينيين على امتداد فلسطين التاريخية بالتخلص من ميراث أوسلو الانهزامي.