هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
كتبت هنا الأسبوع الماضي عن ليلة الغدر، وعنيت بذلك ليلة التاسع والعشرين من رمضان الذي وافق 3 حزيران (يونيو) من عام 2019، عندما هجم آلاف الجنود على من كانوا معتصمين أمام مبنى القيادة العامة للجيش السوداني، في سياق الحراك الشعبي الذي نشد وأنجز إسقاط حكم عمر البشير، ثم رابط في تلك الساحة رفضا لاغتصاب قادة الجيش للسلطة بعد الإعلان عن عزل البشير، فكان أن سقط عشرات القتلى ومئات الجرحى، وفي هذا كتب الشاعر يوسف الدوش قصيدته التي يقول فيها: إن نفس الزول (الشخص) الذي قتل ولدك يحكم بلدك، في إشارة صريحة إلى أن جنرالات الجيش الذين يتمتعون بعضوية مجلس السيادة الحالي ضالعون في تلك الجريمة.
بلطجة لا مبرر لها
وافق يوم الثلاثاء الماضي 11 أيار (مايو) التاسع والعشرين من رمضان، أي الذكرى الثانية لما صار يعرف بـ "مجزرة القيادة العامة"، ودعت أسر ضحايا المجزرة الى إفطار جماعي في نفس الساحة التي شهدت مصرعهم، فما كان من قيادة الجيش إلا أن قامت بإغلاق شبكة الطرق المؤدية إلى الساحة، وكانت هذه بلطجة درجت عليها تلك القيادة كلما تم الإعلان عن مسيرات شعبية، فليس للجيش سلطة على شوارع العاصمة (الخرطوم) ولا يحق له إغلاق الشوارع العامة إلا في ظل حالة طوارئ معلنة.
تدفق الآلاف إلى ساحة القيادة العامة مجتازين الحواجز العسكرية لتناول الإفطار وإحياء ذكرى المجزرة والترحم على الضحايا، وانتهت الفعالية بإلقاء كلمة "منظمة أُسَر شهداء الثورة"، وكانت الكلمة بمثابة حجر ضخم تم الإلقاء به في بحيرة السياسة السودانية الراكدة، وصارت دوائره تنداح، ومن المؤكد أنها ستتحول على موج عاتٍ قد يزلزل المشهد العام في البلاد، فقد جاء في تلك الكلمة اتهام صريح بأن محمد حمدان دقلو (حميدتي) والذي تحول من قائد مليشيا (الدعم السريع) إلى عضو في مجلس السيادة (الرئاسة) برتبة فريق أول، وأخوه عبد الرحيم هما المسؤولان عن مجزرة القيادة العامة.
قادة حاملي السلاح في القطاعين العام والخاص غير معنيين إلا بامتيازاتهم، والشقة تتسع يوما بعد يوم بينهم وبين القوى المدنية التي أنجزت إسقاط نظام عمر البشير،
ثم بدأت الحشود في التفرق في شكل مجموعات صغيرة، وفوجئ بعضهم بكمين عسكري وتعرضوا لهجوم شرس بالعصي ثم انهال عليهم الرصاص وكان أن سقط "شهيدان" وعشرات الجرحى، أي أن نفس الزول الذي خطط لمجزرة عام 2019 قرر مع سبق الإصرار والترصد أن يحيل عيد الفطر هذا العام أيضا إلى مأتم عام، ثم وكما يفعل كل من يحاول ان يتنصل على فعلته، أي جماعة "ضربني وبكى وسبقني واشتكى"، خرج على الناس العميد الطاهر أبو هاجة معقبا على الحادث؛ والرجل هذا لا يفوت فرصة دون الإدلاء بكلام منطوق أو مكتوب، ويفعل ذلك مسلحا بمسمى المستشار الإعلامي للفريق أول عبد الفتاح البرهان، ولكنه فقط بصفته القائد العام للجيش وليس رئيس مجلس السيادة، ولكن يبدو أن أبو هاجة هذا يسعى لأن يصبح علما ولهذا يتكلم عن شؤون الحكم والسياسة بانتظام متناسيا عمدا أنه مستشار، والمستشار يشور ولا يتخذ القرار، ولا يملك صلاحية النطق باسم من يقدم له المشورة.
إشانة سمعة الجيش
أبوهاجة هذا زعم أن حادث إطلاق النار على مدنيين يوم الثلاثاء الماضي يراد به إشانة سمعة القوات المسلحة، والإيقاع بينها وبين "الثوار"، وما أشان سمعة القوات المسلحة سوى قادتها الذين خططوا لمجزرة 2019 والذين أمروا بسد بوابات القيادة في وجوه من حاولوا اللجوء إلى المبنى هربا من جحيم النيران في حزيران (يونيو) من عام 2019، وأشان إليها من حولوا الجنود إلى مرتزقة يحاربون لحساب دول أخرى.
بلطجة العسكر الأخيرة بحق مدنيين مسالمين أوقعت رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك في حرج بالغ، فقد سكت من قبل على تعامل الشرطة بعنف مع مسيرات سلمية، وما زال التحقيق في مجزرة 2019 سلحفائيا، فكان أصدر بيانا شديد اللهجة تنديدا بالحادث، ووعد بملاحقة الجناة على وجه السرعة، فكان أن تم الإعلان عن اعتقال العسكريين المشتبه في إطلاقهم النار يوم الثلاثاء الماضي، وهكذا ارتد تصريح أبو هاجة عن المندسين الذين يريدون إشانة سمعة الجيش عليه لأن المعتقلين من "الجيش".
والجيش الوطني الذي يحاول عسكريو السلطة في السودان تصويره على أنه بقرة مقدسة، بحاجة إلى قيادة تحفظ له هيبته وكرامته ومهنيته، وفي خرطوم اليوم سبعة، وفي رواية أخرى تسعة جيوش (قطاع خاص)، ولكل واحد منها كوادر من الجنرالات واللواءات والعمداء والنقباء والرواد والملازمين وغيرها من الرتب، جميعهم يمخرون في شوارع المدينة مستعرضين العضلات في انتظار الدمج في الجيش الوطني فيتم إسباغ صفة "الرسمية" على رتبهم.
وليس في كل ذلك ما يبشر بالخير لمستقبل السودان، لأن قادة حاملي السلاح في القطاعين العام والخاص غير معنيين إلا بامتيازاتهم، والشقة تتسع يوما بعد يوم بينهم وبين القوى المدنية التي أنجزت إسقاط نظام عمر البشير، وأثبتت فعالية الإفطار الرمضاني في ساحة القيادة العامة أن تلك القوى مازالت متماسكة وعازمة على السير بالثورة الشعبية إلى غايتها وهي إقامة نظام حكم مدني حقيقي لا يكون فيه للعسكر القول الفصل، وباتهام أُسر ضحايا مجزرة 2019 لحميدتي بأنه وأخوه الجانيين، يصبح المشهد مفتوحا إلى سيناريوهات لا تبشر بخير للبلاد والعباد.