كنا نُعلَّم أن "مَن أدمَنَ قَرْعَ الباب يُوشَك أن يُفتَح له"، ولمّا صحبنا أهل الطريق تعلمنا أن "الباب لم يُغلق أصلا حتى يُفتح". ودروس السلوك هي أجَلّ ما يتعلمه من اصطفاه الله لأن يكون من بني البشر الذين ميّزهم على سائر المخلوقات. فالخَلْقُ بين ملائكة معصومين، وشياطين مارقين، وبُهْمٍ لا يعقلون شيئا ولا يفقهون، وجاء البشر ليجمعوا بين صفاء النفس كالملائكة، والإعراض عن الأوامر كالشياطين، والانجذاب لشهوات النفس كالبُهْم، وكل هذا يجري باختبار وابتلاء لا ينجح فيه إلا من زكّى نفسه، أمّا مَنْ دسَّاها فقد خسر وخاب.
وَرَدَ في الصحيح من كلام نبينا صلى الله عليه وسلم، "ما يُصِيبُ المُسْلِمَ، مِن نَصَبٍ ولَا وَصَبٍ، ولَا هَمٍّ ولَا حُزْنٍ ولَا أذًى ولَا غَمٍّ، حتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بهَا مِن خَطَايَاهُ". والنَّصَب هو التعب، والوَصَب هو المرض، وهذا الحديث يفتح باب الرحمة كما بين المشرق والمغرب، ويفتح باب معرفة الخالق الرحيم على مِصْراعيه، لكن دعاة الغِلْظة وقفوا على تلك الأبواب - بِحُسن نية - وكأنهم حُجَّابُها، رغم أن باب مَلِك الملوك لا حاجب له.
هذا الحديث هو الذي فهمنا منه قول النبي "لا يدخل النار إلا شقيّ"، فكيف يدخل النار مخلوق يُكَفِّر الله عنه خطاياه ببعض التعب أو المرض؟ بل كيف يدخل النار مخلوق تُكَفَّر عنه خطاياه لأنه حزين أو مهموم أو مغموم؟ بل إن ما يفوق الوصف أن يكون المرء سائرا ويُشاك بشوكة فيجد صحيفته ابيضّت من أثرها لا من استغفاره. لا يمكن للعقول المحجوبة عن معرفة الله أن تتصور كل هذه الرحمات بدون أي سعي للعبد تجاه الاستغفار من خطئه وَزَلَلِهِ.
هذه الرحمات المبثوثة في الحياة نجد معها رحمات تتنزّل بصورة دورية، فهناك خمس صلوات في اليوم والليلة "مكفّرات لما بينهن إذا اجتُنبت الكبائر". ثم هناك مناسبة أسبوعية لتكفير السيئات، ومن غلبته سيئاته على مدار الأيام والأسابيع، تأتيه مناسبة سنوية للتكفير في شهر
رمضان المعظّم، وهو شهر الإعانة الكبرى على شهوات النفس وانغماسها في البُعد عن العليّ الكريم، فتُضاعف الحسنات، وتُسلسل الشياطين، ويَقِلُّ تدفق الدم في العروق لتخفت الشهوات، ثم تأتي فوق كل ذلك فرصة لكل ما مضى من العمر "من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه".
فمن فاتته كل هذه الكفارات، تأتيه سكرات الموت كفارة له، فإن لم تكفِه يأتيه سؤال الملكين، فعذاب القبر، فالقيام للبعث، فوقفة المحشر، فالحساب، فالمرور على الصراط. كل هذه المراحل في الدنيا والآخرة تأتي رحمة للعاصي ونعيما للطائع، فإذا لم تَكْفِ العاصي كل هذه المراحل لتكفير خطيئاته، انطبق عليه قول النبي "لا يدخل النار إلا شقي".
شارَفَ شهر الخير العميم على الإدبار، وربما تكون أغلب النفوس ما تزال مشربة من آثار عصيانها على مدار العام، لكن البصير هو الذي يدرك أن الشهر أتى للإعانة على التغلب على شهوات النفس، وأنه أتى ليخبر كل امرئ أنه يقدر على مغالبة شهواته؛ فمن يقدر على الإمساك عن العصيان لساعات طوال ابتغاء تحصيل الثواب، فإنه يقدر على الإقلاع عن الذنب تماما.
والشهر أتى للمساعدة في التدرج على الإقلاع عن المعصية، كما أتى للمساعدة في التدرج على التزام أبواب عديدة للطاعات، ما بين صيام وذكر وقيام وقراءة القرآن. ويؤثر عن سيدنا علي كرّم الله وجهه قوله "إن للقلوب إقبالا وإدبارا، فإذا أقبلت فاحملوها على النوافل، وإذا أدبرت فاحملوها على الفرائض". ويقصد سيدنا عليّ بهذا أن النفوس تنشط للطاعات، فإذا نشطت ينبغي على المرء أن يزيد في طاعاته ويأخذ ما يشاء من النوافل، وهذه النوافل الزائدة تصبح بمثابة جُنَّةٍ عن ترك الفرائض حال فتور القلب، فمن لزم النوافل في النشاط، لن يبلغ به الحال ترك الفرائض في الخمول.
كذلك يفعل شهر الخير بالنفوس، فإنه يُروّضها عن شهوتي البطن والفرج، وفوق هذا الترويض يندفع المرء - وسط الجماعة - نحو النوافل كالقيام والذكر وقراءة القرآن، فتصير لدى الإنسان جُنَّة عن المعاصي، وجُنَّة عن ترك الفرائض، ثم يأتي ختام الشهر الكريم مصحوبا بالتكافل الاجتماعي ويأمر من يملك قوت يومه أن يُخرج بعضا مما لديه ويضعه في يد المحتاجين. فالشارع الحكيم كما يهذّب آحاد النفوس، فإنه يجمع شتات الجماعة بحكمة بالغة ورفق أخّاذ، ويجري ذلك في مظاهر الجماعات الصائمة أو القائمة، كما يجري في سرائر النفقات؛ فيأتي فعل الصيام وهو فردي لكنه يظهر في صورة جماعية، إذ يمتنع الجميع عن إبداء المخالفة حتى المعذور من الصيام لا تطاوعه نفسه على خرق هذه الصورة الجماعية، ويأتي فعل الزكاة وهو صورة لتكافل جماعي، لكنه مصحوب بالخفاء الفردي في الإعطاء والإنفاق، فتبدو الفردية في الجماعة، وتبدو الجماعة في الفردية، فسبحان من أبدع وجمع بين المتنافرات بحكمته.
مع كل مَقْدِم لرمضان، تصفو النفس مما علق بها على مدار الأيام والليالي، ويتصالح العبد مع ربه، وعقب كل إدبار من العبد يجد إقبالا من المعبود، وهو إقبال المحب الرؤوف بمن خلقهم وكرمهم، إقبال لا نظير له، وحِلْم لا يضاهى، وصَفْح لو قُسِّم على أهل السماوات والأرض لَوَسِعَهُم، ومع كل مقدم للشهر الكريم يذوق المرء حلاوة الطاعة ومرارة العصيان، ليظل الشغل الشاغل، إذا كانت هذه حلاوة الطاعة وهذا صفاء الروح والنفس، فلم يتنكّب الإنسان عنهما بعدما ذاق حلاوتهما وعاين أثرهما؟
twitter.com/Sharifayman86