عادت
فلسطين من جديد لتستعيد موقعها في المشهد العالمي. ظن الإسرائيليون بأنهم وضعوا الفلسطينيين في الدائرة المغلقة، وأدخلوهم بيت الطاعة بعد أن نسيهم العرب قبل أن ينساهم العالم المشغول بحربه ضد جائحة كورونا، فإذا بهم يخرجون من تحت الأنقاض بعزيمة جديدة وإرادة فولاذية وإيمان بضرورة مواصلة النضال والمقاومة. جيل آخر يستعد لاستكمال المشوار، وأصوات جديدة تخترق
القدس، مؤكدة أن الحق الفلسطيني لن يفرط فيه أصحابه مهما اختلت الموازين، وأبرمت الصفقات، وطمست الحقائق، وضعفت الذاكرة القومية.
رغم أن السياسات الأمريكية يحكمها نسق داخلي متجانس، إلا أن تغير المسؤولين وتداول الحزبين الجمهوري والديمقراطي من شأنه أن يخلق فرصا، ويغير السياقات التي قد تكون مساعدة لكثير من الشعوب، ويكون مردودها إيجابيا على قضايا عادلة كثيرة من بينها القضية الفلسطينية.
لا شك في أن رحيل الرئيس ترامب وحلول الرئيس الديمقراطي جو بايدن قد أزعج الطبقة الحاكمة في إسرائيل، وأحدث اضطرابا في خططها وأولوياتها. وهو ما من شأنه أن يعطي الفلسطينيين إمكانية إحداث ثغرة في الجدار الإسرائيلي السميك، بعد أن تم التوقف عن مشروع " صفقة القرن".
من جهة أخرى، رغم دهاء نتنياهو وقدرته على الاستمرار على رأس الحكومة بعد أن نجح في الاستفادة من ضعف الأحزاب المنافسة له، إلا أن محاكمته في قضايا فساد أغرقت الحياة السياسية الإسرائيلية في صراع على المصالح، وأفقدها المصداقية، وهو ما جعل الجبهة الداخلية ضعيفة وغير متماسكة.
حتى مسألة التطبيع التي تم التسريع في نسقها مع الإدارة الأمريكية السابقة، لم تدفن الملف الفلسطيني، ولم تقلل من شرعيته ومواصلة طرحه على أكثر من صعيد. لا يوجد عاقل يمكن أن يكون بديلا عن الفلسطينيين وأن يتنازل عن حقهم في أرضهم ووطنهم.
في هذا السياق المحلي والإقليمي والدولي، وجدت إسرائيل نفسها في اشتباك مباشر مع منظمات حقوقية وازنة على الصعيد العالمي. فهي من جهة مدعوة للإجابة عن التهم التي وجهتها إليها المحكمة الجنائية الدولية، والتي تتعلق بارتكاب الجيش الإسرائيلي جرائم في حق الفلسطينيين. ورغم أن إسرائيل ليست عضوا بالمحكمة، ورغم وقوف الولايات المتحدة إلى جانبها، إلا أن ما حصل حتى الآن يعتبر تحولا في سياسة هذه المحكمة، التي بقيت منذ تأسيسها تتجنب إخضاع دولة
الاحتلال إلى المحاسبة عن جرائمها المتواصلة.
كما تحركت منظمة واتش الأمريكية لتكثف الضغط على هذه الدولة المارقة عن القانون الدولي؛ ففي تقريرها الأخير تحت عنوان: "تجاوزوا الحد.. السلطات الإسرائيلية وجريمتا الفصل العنصري والاضطهاد، استعرضت سلسلة الانتهاكات الموثقة التي تشمل "مصادرة الأراضي على نطاق واسع، والحرمان من حقوق الإقامة، وتعليق الحقوق المدنية، وترقى إلى مستوى الأفعال اللا إنسانية، والانتهاكات الخطيرة للحقوق الأساسية للفلسطينيين".
إلى جانب ذلك، التحقت منظمة العفو الدولية بهذه الحملة من خلال تقريرها الذي أصدرته في شهر كانون الثاني/ يناير الماضي، واعتبرت فيه أنه واجب على الحكومة الإسرائيلية "التوقف عن تجاهل التزاماتها الدولية كسلطة محتلة، والعمل على الفور لضمان توفير لقاحات فيروس كوفيد-19 بشكل متساوٍ ومنصف للفلسطينيين الذين يعيشون تحت احتلالها في الضفة الغربية وقطاع غزة".
في هذا السياق الإيجابي محليا ودوليا، كان ينتظر أن تجري
الانتخابات الفلسطينية في موعدها الذي حددته السلطة وجميع الفصائل؛ فهذه الانتخابات من شأنها أن توفر فرصة نادرة لإعادة الوحدة الفلسطينية التي أضرت بها الخلافات الداخلية، وأن تشكل ضربة قوية للعنجهية الإسرائيلية التي عملت باستمرار على تفتيت القرار الفلسطيني، ومن جهة أخرى تمكين الشعب من أن يتولى عبر صناديق الاقتراع وبشكل شفاف وديمقراطي تجديد النخب المحلية، وتصعيد وجوه جديدة وقادة يكونون في مستوى الأحداث الكبرى التي تعصف بالقضية وبالأرض. لكن للأسف، بعد أن بدأت تسري روح جديدة في صفوف الأهالي رغم بعدهم بعضهم عن بعض بسبب التقطيع الإسرائيلي للأرض الواحدة، وبعد أن عاد الحديث مرة أخرى عن هذا الشعب الذي لم تتمكن المصائب التي مر بها في أن تجعله يخضع ويستكين ويستسلم لأعدائه، إذا بقرار فجائي ومتسرع يلغي كل ذلك في لحظة، دون تقدير للتداعيات الخطيرة التي يمكن أن تنسف مسارا بدأ يتسارع نحو استنهاض الشعب وإحداث المنعرج في مسار صعب.
مهما كانت المبررات التي دفعت بالرئيس
محمود عباس إلى اتخاذ هذا القرار، سواء أكان استجابة للضغوط الإسرائيلية، أو خوفا من هزيمة حركة فتح التي شاركت بقائمات متنازعة في عدد من الدوائر الرئيسية، الأكيد أن هذه تعتبر تفاصيل، وأن القضية أكبر من أي فصيل، وأن الواجب يفرض أن تبقى القضية الوطنية فوق أي حسابات ضيقة.. سيذهب الجميع وتبقى فلسطين.