لا حاجة إلى أن يراجع أحد من
الفلسطينيين الذين جاءت هبّة
القدس لتفاجئهم، وتنسيهم، ولو لأيام معدودات، ما كانوا يعتبرونه الأولوية والضرورة القصوى لإنجازه.
لا حاجة لأن يطالب أحد من هؤلاء بأن يراجع الأسباب التي وضعته وما كان عليه في واد، فيما شباب القدس، أو ما كان ما يُعدّ له العدو في القدس في وادٍ آخر، مما فجّر هبّة شباب القدس.
لا حاجة إلى ذلك؛ ليس بسبب عدم أهميته، ولكن لأن الأهم أن نقف موقفا صحيحا من هبّة القدس التي بين أيدينا، وقد أنجزت أكثر من نصر في بضعة أيام من المواجهات مع المستوطنين وقوات
الاحتلال.
ونسأل: هل يكفي أن نقف مع هبّة القدس، وندعو إلى دعمها ورفدها بالتأييد، وإشعار شبابها أنهم ليسوا وحدهم، وأننا معهم؟ وكيف؟ بمعنى ما هو المطلوب منا فوق ذلك؟
الجواب ببساطة وهنا مسؤولية الفلسطينيين، أولا وقبل كل شيء، هو أن تكون هذه الهبّة فاتحة لانتفاضة شعبية شاملة، تنتشر في مدن الضفة الغربية وقراها ومخيماتها، لأن ما عبّرت عنه
انتفاضة القدس يعبّر عن الوضع الفلسطيني تحت الاحتلال واستفحال الاستيطان، وتفاقم ما ينتظر القدس والمسجد
الأقصى على الخصوص، من انتهاكات ومخاطر وتحديات. فالقدس مقبلة على معركة الاستيلاء على حي الشيخ جراح في القدس خلال الأسبوع الأول من شهر أيار/ مايو القادم، والمسجد الأقصى، بالإضافة إلى الانتهاكات والمعارك اليومية مع جماعات الهيكل المدعومين من الحكومة الصهيونية وقواتها المسلحة، يستعد لمعركة كبرى في الثامن والعشرين من رمضان إذا لم يرتدع عما يعدّ له من اقتحام المستوطنين.
هذا والضفة الغربية في مواجهة يومية مع توسيع الاستيطان واعتداءات الاحتلال من اعتقالات واقتحامات، الأمر الذي يعني أن جميع القوى الفلسطينية، فصائل وأفرادا، أو قل الشعب كله، الشباب والشابات كلهم، في مواجهة مستمرة ومتصاعدة مع العدو الماضي بثبات في إجراءاته داخل القدس. مثلا ما حاول تثبيته في باب العامود، واستدعى إلى الهبّة "المفاجأة"، وما كان من المفترض أن تكون مفاجئة، بل كان من المفترض أن نُعدّ لها تحضيرا وتعبئة.
فالعدو من جهته جعل أولويته أن يُحقق استيطانا وسيطرة أكبر على القدس، كما على المسجد الأقصى والخليل ومناطق أخرى. وهو فاعلٌ ذلك غفلنا عنه أو لم نغفل. مما يعني، موضوعيا، أننا في معركة مباشرة لا مجال للانشغال بغيرها، أو لتأجيل المواجهة فيها. وهذا بالطبع ما فعلته تلك الثلة من شباب وشابات القدس البواسل في هبّة باب العامود، الذي كان يُراد تغيير واقعه تحت الاحتلال، مما يزيد السيطرة عليه، ويضعف الوصول الفلسطيني فيه وإليه. فالمسألة لم تكن تحتمل أن يُشغل بغيرها أو أن تُؤجل إلى ما بعد الانتخابات مثلا.
من هنا، فإن ما تستدعيه الهبّة الحالية ليس الدعم والتأييد، على أهميتهما، وإنما الجواب بإضراب عام وتظاهرات واسعة في كل مدن الضفة وقراها ومخيماتها، كما فعل أبطال قطاع غزة الذين ارتفعوا بدورهم إلى مستوى المشاركة أو إطلاق شراراتها الأولى، وعدم الاكتفاء بالدعم والتأييد.
إن الرد المطلوب أصلا لما يجري من تهويد واستيطان واحتلال في القدس والضفة أن تتحقق وحدة وطنية (جبهة انتفاضية)، كما حدث في هبّة القدس حيث اتحدت كل القوى الحيّة فيها مع شبابها وشاباتها، وراء ما دار من معارك مواجهة في باب العامود.
هل يستطيع أحد أن يفسّر لنا لماذا لم تتحرك رام الله ونابلس والخليل وجنين لتعلنها انتفاضة شعبية في مواجهة الاحتلال والاستيطان؛ ليس لدعم هبّة باب العامود، وإنما لفتح الملف كله، ملف الاحتلال والاستيطان والمواجهة الشعبية الشاملة؟ هذا وما مثل الانتفاضة الثانية ببعيد، عندما اقتحم شارون المسجد الأقصى.
الجواب؛ لأن القرار السياسي لم يرتفع بعد إلى خوض المواجهة، وإنما يعتبر نفسه، مهما أحسنا الظن، في مرحلة الإعداد والانشغال بقضايا أخرى، حتى تنضج شروط الانتفاضة والعصيان المدني. ولكن هبّة باب العامود تؤكد أن الشروط أكثر من ناضجة، عدا شرطي القرار والوعي في سياسات عدد من القيادات عموما، ولكن مع وضع مسؤولية خاصة على قيادة السلطة وفتح في رام الله، حيث أسقطت من حسابها، كما يبدو وكما أظهرته هبّة باب العامود، أن موضوع الانتفاضة الشعبية طويلة الأمد والعصيان المدني، لم يتحولا إلى استراتيجية وتكتيك يُشكلان الجواب الوحيد ضد ما يجري من استيطان وتهويد واحتلال للضفة، وانتهاكات للقدس والمسجد الأقصى. فيا للأسف والعار، ما زالت مناهضة الانتفاضة على رأس مهمات التنسيق الأمني.
إن هبة القدس أثبتت حقيقة باهرة، وهي أن الوضع الفلسطيني الشعبي ليس في القدس وحدها، وإنما على مستوى الضفة، ناهيك عن قطاع غزة وعن كل المواقع الفلسطينية، في وضع ثوري للانتفاض والمواجهة، فما ينبغي لأحد أن يرى ما جرى في باب العامود ظاهرة مقتصرة على ثلة من الشباب، وإنما هو ظاهرة عامة كامنة ومتحفزة بالتأكيد. ولكن ما العمل مع وعي في رؤوس بعض الكبار ما زال يعيش في عقلية أوسلو (عقلية الهزيمة)، أو في عقلية ما زلنا في مرحلة الإعداد والتحضير وتأمين الدعم والصمود؟
إن هبّة القدس في باب العامود أثبتت حقيقة باهرة أخرى، وهي أن العدو أسرَعَ إلى التراجع وابتلاع هزيمة جزئية في باب العامود. وهو ما يفسّره، أولا وقبل كل شيء، خوفه من انتشار الانتفاضة إلى الضفة وتحرك قطاع غزة، الأمر الذي يؤكد أن ميزان القوى العالمي والإقليمي وحتى بعض العربي المهرول، لا يحتمل استقبال مواجهة انتفاضة شاملة تصادم الاحتلال والاستيطان، وتذهب بالصدام إلى أقصاه: إما الاستمرار العنيد من جهتنا، وإما الانسحاب وتفكيك المستوطنات بلا قيد أو شرط.
أما من يتصور أن هذا الاحتمال الأخير غير ممكن فهو واهم؛ لأنه في متناول اليد حين يجعل الشعب الفلسطيني الثمن الذي يدفعه الكيان الصهيوني وأمريكا والغرب، مقابل استمرار الاحتلال أغلى بكثير عليهم من الانسحاب وتفكيك المستوطنات. ولهذا لاحظوا كيف راحت أصوات مناصري الكيان الصهيوني تتعالى من كل جانب داعية للتهدئة وعدم التصعيد، وذلك ليس خوفا على الفلسطينيين، وإنما على كل المعادلة السياسية التي يريدونها لما أسموه "الشرق الأوسط الجديد".
باختصار شديد، يمكننا أن نمتلك زمام المبادرة.