قضايا وآراء

حافظ سلامة.. ضمير الأصالة الكاملة لوطن وأمة

هشام الحمامي
1300x600
1300x600
رحل شيخ المجاهدين، الرجل الذي اختارته عناية الله ليقوم بدور عظيم في أيام عظيمة لشعب عظيم، وقد كان، ليكتب التاريخ عنه ليس فقط كرجل عظيم، ولكن كمستودع أصيل لضمير وطن بأكمله وأمة بأسرها.

ما أبسط الشخص في الأدوار التاريخية الكبرى إذا قيس بالأثر الضخم الذي يحدثه الشخص في تاريخ أمته، هكذا كان الرجال الكبار في كل زمن وكل تاريخ، صلاح الدين لم يكن مجرد قائد عسكري انتصر في معركة وحرر مدينة، وإن كان النصر على جيوش أوروبا وإن كانت المدينة هي القدس. ونقول مثل ذلك عن كل من اختارته عناية الله ليكون راية نصر خفاقة ترفرف فوق كل الهزائم وكل الأحزان في كل زمان.

تقول الحكاية إن الشيخ حافظ سلامة الذي رحل عنا الاثنين الماضي والمولود في 6 كانون الأول/ ديسمبر 1925، كان معتقلا في السجن الحربي بعد الصدام الشهير بين حركة الضباط والقيادات السياسية والحزبية عام 1954م، وخرج من السجن في كانون الأول/ ديسمبر 1967م مع عدد كبير من المعتقلين.. بعد الهزيمة بستة أشهر، وحين عاد إلى بيته ومدينته السويس نظر حوله وتلفت، ولم يلبث إلا قليلا حتى عرف من أين يبدأ.. فأنشأ "جمعية الهداية الإسلامية" للعمل الخيري والتربوي والاجتماعي، وعلى الجانب الآخر كان له دور كبير في القيادة النفسية والمعنوية لرجال القوات المسلحة في ذلك الوقت العصيب، تذكيرا بفريضة الجهاد وحب الموت والاستشهاد وأهمية المعركة القادمة مع الصهاينة.

يقول عنه الفريق عبد المنعم واصل (1927-2002م)، قائد الجيش الثالث وقتها: الجميع كانوا يعدونه أبا روحيا لهم في تلك الأيام العصيبة. ويصفه الفريق سعد الشاذلي (1927-2011م)، رئيس أركان الجيش في الحرب، بـ"الرجل الذي اختارته عناية الله" ليؤدي دورا عظيما خلال الفترة 23- 28 تشرين الأولأ/ أكتوبر عام 1973م وصد هجمات العدو ومنعه من احتلال المدينة.

كيف حدث ذلك ومن الذي قام بكل ذلك..؟

حين بزغ فجر يوم 24 تشرين الأول/ أكتوبر 1973م الموافق 28 رمضان 1394هـ ارتفع الأذان من مسجد الشهداء بمدينة السويس ينادي أن الله أكبر الله أكبر، المدينة كلها تقريبا (قادة وجنودا وشعبا) كانت في المسجد ساعتها تصلي خلف الشيخ حافظ سلامة رحمه الله، وبعد الصلاة تحدث المحافظ قائلا: إن العدو الإسرائيلي يستعد لدخول المدينة بعد أن أحكم الحصار حولها برا وبحرا وطائراته تسيطر على سمائها، وبدأ القصف طيرانا ومدفعية.

وبدأ الفدائيون من الأهالي تنظيم أنفسهم، وبخبرتهم في حرب الاستنزاف لاحظ أحدهم أن القصف مركّز على قلب المدينة وبعيدا تماما عن مداخلها، وهو ما يعني أنهم سيدخلون المدينة بعد قليل من هذه المداخل: مدخل القادم من القاهرة، ومدخل القادم من الإسماعيلية، ومدخل الجنوب القادم من بورفؤاد.

وفي الحال تم تجهيز الكمائن في هذه المداخل.. كمين رئيسي وعدة أكمنه فرعية. بدأت القوات الإسرائيلية في التقدم ودخلت المدينة دون مقاومة، وإذا بأبواب الجحيم تفتح عليهم، وبدأت المعركة والتي كانت أشرسها في ميدان الأربعين. وانطلقت النيران من كل شبر في ميدان الأربعين وأصيب الإسرائيليون بالهلع وتركوا الدبابات ولاذوا بقسم شرطة الأربعين، وتركزت المعركة في مبنى قسم الشرطة وتحركت كل الكمائن لمحاصرة القسم وإطلاق النيران عليه من كل جانب، ولم يأت الليل إلا وكانت القوات الإسرائيلية قد انسحبت بالكامل خارج السويس تاركة خلفها 100 قتيل وما يقرب من 500 جريح و33 دبابة.

في اليوم الثاني (25 تشرين الأول/ أكتوبر) حدث شيء مدهش أشبه بمواقف "الدراماكوميك"، إذ حاول لواء مدرع دخول المدينة ثانية، وذهب قائده قبل دخول القوات إلى شركة السويس لتصنيع البترول واتصل من هناك بالمحافظ يطلب منه تسليم المدينة، وإذا لم ينفذ تلك الأوامر خلال نصف ساعة سيضرب السويس بالمدافع والطائرات. اتصل المحافظ بالحاكم العسكري العميد عادل إسلام وأبلغه بالتهديد الجديد، وطلب منه العميد عادل أن يرجع إلى الشيخ حافظ سلامة، وجاء رد الشيخ حافظ دون تردد: "سيادة المحافظ اذا أردت تسليم السويس فهذا سيكون بصفتك الرسمية كمحافظ، ولو الحاكم العسكري قرر أن يسلم المدينة فهذا باعتباره معينا من الدولة، أما أنا وشعب السويس فسندافع عن بلدنا إلى آخر نقطة دم. انتصرنا عليهم أمس وطردناهم ودمرنا كل دباباتهم، فهل نسلم لهم المدينة اليوم بكل سهوله هكذا..".

انتهت النصف ساعة التي حددها القائد الإسرائيلي ولم يأت أحد لتسليمه المدينة! فدخل مسجد المعهد الدين بجوار الإستاد مستخدما ميكروفون الأذان وأخذ يردد بالعربية "هنضربكم بالطيران والمدفعية لو ما سلمتوش". وفي الحال رد عليه الشيخ حافظ من ميكروفون الأذان بمسجد الشهداء: أهلا وسهلا مرة ثانية على أرض السويس.. المدينة في احتياج لدمائكم القذرة مرة ثانية وثالثة ورابعة. تقول الحكاية إن استعداد المدينة للمواجهة لم يكن كما أمس، ولو نفذ القائد تهديده ودخل، لكانت السويس محتلة بالكامل ولكان الطريق الى القاهرة مسألة وقت لاغير، لكن الجبان امتلأ رعبا من كلمات الشيخ وتراجع.

سيظل اسم حافظ سلامة وقصة صمود السويس قطعة من ذاكرة الوطن تطل علينا بالمعنى والقيمة والقدرة، تقودنا نحو الإدراك الحقيقي لذاتنا وطبيعتنا ومن نحن وبما نكون وكيف نكون.

لم يكن كل ذلك مشهدا عابرا قام به أبطال كانوا هنا ومضوا.. لكنه كان مستودع الأصالة الكاملة لدى هذا الشعب العظيم.. كان روح مصر وضميرها وعقلها وإدراكها بدورها وقيمتها.. وهذا هو المعنى الذي ترفرف رايته الآن.

twitter.com/helhamamy
التعليقات (0)