كتب

حتى لا تكون الوسطية في الفقه الإسلامي مدخلا للتفريط في الدين

أحمد القاسمي: الوسطية في فهم الدين الإسلامي أصبحت موضوع الساعة اليوم  (عربي21)
أحمد القاسمي: الوسطية في فهم الدين الإسلامي أصبحت موضوع الساعة اليوم (عربي21)

الكتاب: مقصد الوسطية وأثره في الفقه الإسلامي
الكاتب: فوزي غلاب
الناشر: مجمع الأطرش للكتاب المختص 2019.
عدد الصفحات: 287 صفحة

 

 

 

لابد للمفتي، من وجهة نظر الباحث، أن يكون على قدر كبير من الحلم والوقار والسكينة والتقوى. ومنها العلميُّ. فيكون عالما بالفقه أصلا وفرعا ومذهبا محيطا بأدلة الأحكام بصيرا بمقاصد الشريعة الإسلامية عارفا بأقوال الفقهاء في مواضع الإجماع ومواقع الخلاف ملمّا بقدر من علوم العربية.


أصّل الباحث فوزي غلاّب مفهومي الوسطية والمقاصد في الشطر الأول من الأثر. فمثل له عمله خلفية نظرية يستند إليها في الشطر الثاني للبرهنة على رصد نزعة الفقه إلى الاعتدال في التعاطي مع المعيش وفعله فيه.

1 ـ مراعاة مقصد التوسط في الأحكام الشرعية

يجد الباحث أنّ التوسط في التشريع يجري في عامة الأحكام الشرعية، بوعي من الفقيه وسعي إليه. وما تأكيد الشاطبي في ختام "مباحث المشقة والتيسير" من "موافقاته" أنّ "الشريعة جارية في التكليف بمقتضاها على الطريق الوسط الأعدل، الآخذ من الطرفين بقسط لا ميل فيه، الدّاخل تحت كسب العبد من غير مشقة عليه ولا انحلال، بل هو تكليف جار على موازنة تقتضي في جميع المكلفين غاية الاعتدال، كتكاليف الصلاة والصيام والحج والجهاد والزكاة وغير ذلك.." إلاّ دليل على هذا الوعي.
ويتخذ هذا المقصد مظاهر عديدة. منها سهولة التكاليف وتوزيعها، مراعاة لحالات الاضطرار وأخذا بالشروط والأسباب، بين الواجب والمندوب والحرام والمكروه والمباح. فكان يمنح الرخص لمن يتعذّر عليه الاستجابة لحكم أو الامتثال لأمر. فقد اتفق الفقهاء على اعتبار قدرة المكلف على القيام بما يؤمر به شرطا من شروط التكليف لقوله تعالى في الآية (286) من البقرة "لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا". 

وفي تاريخ التشريع ما يؤكد ذلك، فقد كان المسلمون، إذا ما وجدوا الحكم القرآني ثقيلا وطلبوا التخفيف استجابت العناية الإلهية وخُفف عنهم. فقد نهى الله في الآية (152) من سورة الأنعام عن أكل مال اليتيم بقوله "وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" فشق على النّاس الأمر لعموم النهي. واعتزلوا اليتامى فلم يخالطوهم في مأكل ولا مشرب ولا مال، فسألوا الرسول فأنزل الله عز وجل "وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاء اللّهُ لأعْنَتَكُمْ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ". ويريد الآية (220) من سورة  البقرة. 

ومما جاء في أخبار المسلمين عن رواية البراء بن عازب، أن الواحد منهم إذا كان صائما ولم يفطر مع حلول موعد الإفطار قضى ليلته دون أكل حتى أمسى. وشق الأمر على قيس بن صرمة الأنصاري يوما حتى غشي عليه. فنزلت الآية (187) من سورة البقرة أنْ " أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ ۚ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ". 

لقد نزّلت هذه السمات، وفق فوزي غلاّب، الأمة الإسلامية في مرتبة وسط بين إفراط الأمم السابقة وتفريطها. فلم تكن تمانع مثلا في الإصابة من مباهج الحياة. ولكنها جعلت ذلك بمقدارٍ بعيدا عن الجشع والنهم والتوحش الذي نراه اليوم يغلب على اقتصاد السوق. وجعلت من الزكاة أداتها لإعادة توزيع الثروة وضمان عدالتها بين النّاس.

2 ـ الاجتهاد والفتوى بين مراعاة مقصد التوسط والغلو
 
يرصد الباحث أثر التوسط على عمل الإفتاء، مؤكدا ضرورة مراعاة من يتولى هذه المهمة مقصدَ الوسطية مبرزا أنّ تصنيف الأحكام الشرعية إلى الأعلى والأدنى والأوسط كان نتيجة لاختلاف المتعلقات بحسب الظروف والسياق العام. وتبدو إفادة الباحث من القراءة النقدية المعاصرة للتراث الفقهي جليّة. فيشير إلى أنّ الأحكام الجامدة تتعارض مع دينامية المجتمعات وإلى أنّ حيوية الحياة وتطورها يتطلبان أحكاما  متحركة متفاعلة مع السياق والظروف قابلة التغير والتبدل. فيتحوّل المباح إلى ممنوع في سياقات معينة ويجاز الممنوع. ويجد ضالته في مثال منتخب من تشريع الإسلام المبكّر. فقد أعرض الرسول عن التقاط ضوال الإبل وطلب تركها في سبيل حالها. فممّا روى البخاري من الحديث "ومالك ولها معها سقاؤها وحذاؤها، ترد الماء وتأكل الشجر، فذرها حتى يلقاها ربها". 

أما عثمان، خليفته الثالث، فأمر بالتقاطها وبيعها، ودافعه في ذلك تحقق المصلحة الجماعية، فقد تغيرت الظروف وأصبح يخشى على هذه الإبل أو منها. ولم يفرّط هذا الحكم في الحقوق الفردية. فكان ثمنها يحفظ حتى إذا ما جاء صاحبها أعطي ثمنها. ومما تغيرت أحكامه بتغير السياق، كراهة تعليم القرآن بمقابل. وعلّة ذلك أنّ المعلمين الأوائل كانوا يتمتعون بعطايا من بيت المال نظير جهدهم. ثم أجازت الأحكام الشرعية مكافأة المعلّم لاحقا، لما تغيّرت الظروف واختفت تلك العطايا. 

وفي عدم فهم هذه الحركية خطر عظيم على علاقة المؤمن بدينه. فهو يحول الأحكام إلى مشقة ويجعل من العبادات طقوسا خالية من البعدِ الروحيِّ، ذلك العنصرِ المقصودِ بكل عمل تعبّدي. ومن ذلك المبالغة في صلاة التراويح وتحمل المشقة في سبيلها والحال أنّ الرسول كان قد أمسك عن الخروج إليها حين رأى أصحابه قد أكثروا منها وخشي أن تشرّع وتحوّل إلى فرض. ومن ذلك أيضا، مبالغة بعض الأسر محدودة الدّخل، على أيامنا، في توفير الأضاحي مبالغة تضير بتوازنها المالي والحال أنّ نحر الأضاحي سُنّة لا يسأل عنها إلا من استطاع إليها السبيل.

ويستوجب التّوسط ونكران التطرّف في الدين رفض غلوّ المجتهدين. كإثبات عمل شرعي بأشد مما أراد الشارع شأن الحكم ببطلان صلاة من مرّ حمار بين يديه أو من فرض صوم المريض ويعني الفقيه الأندلسي يحي بن يحي الليثي الذي أعلم سائله بوجوب صوم شهرين لمفطر رمضان ولم يخبره بإمكانية دفع الكفارة. فمما أورد محمد الطاهر بن عاشور في أثره مقاصد الشريعة الإسلامية: "ويجب على المستنبطين والمفتين أن يتجنوا مواقع الغلو في الدين والتعمّق في حمل الأمة على الشريعة وما يسنّ لها من ذلك، وهو موقف عظيم". 

3 ـ مقصد الوسطية وأثره في الفقه الإسلامي.. وبعد

مما يحسب لهذا الأثر إلحاحه على الحاجة إلى التوسط وجعله سبيلا إلى إسلام معتدل في زمن الغلو. وارتقاؤه، على المستوى النظري، بمفهومه إلى مستوى مقاصد الشريعة، حتى غدا عنصرا محدّدا لفهم النص ولتمثل الكون وتبيّن منزلة الإنسان فيه وتحديد سلوكه وتقويمه. 

ويؤكد الأستاذ محمد الشتيوي هذا الجهد فيذكر في تقديم الكتاب "ليست الوسطية صفة عارضة أو مستعارة يلحقها الوسطيون بالإسلام أو يسقطونها عليه، بل هي صفة ثابتة في جوهره الخالص وتتخلل جميع كلياته وجزئياته، إذ لا شيء في الإسلام غير وسطي، بل كل أمر وسطي هو حتما من الإسلام ولو لم تصرح به نصوص الوحي، فنسبة الوسطية إلى الإسلام هي كنسبة التنفس إلى الكائن الحي. أو كنسبة الطهورية والعذوبة إلى الماء المبارك المنزّل من السماء، بحيث يصعب التفريق بين الصفة والموصوف، إذ لا فرق بين قولك إسلام وقولك وسطية، لأنّ كل واحد منهما يحيلك إلى قرينه". 

فيكشف هذا المصنف عن باحث يتفاعل مع الرّاهن السياسي ويحثّ على التوسط، وقد غدا اليوم موضوع الساعة، ويُرغّب فيه. ولا يخلو عمله من حسّ نقديّ. فلا يجد في إفتاء بعضهم بنصرة الكفار وإعانتهم على المسلمين وإباحة حرمة دم المسلم شيئا من هذا التوسط. فيذكّر باختلاف العلماء في الاستعانة بالكافر في الحرب على الكافر. أما نصرة الكافر على المسلم "فهذه مصيبة والعياذ بالله". 

ومثل الجانب الاجتماعي هاجسا ثانيا يؤرق الباحث. وقد تناءت المسافات بين المسلمين في تصورهم للتدين بين فهمٍ متطرّف يحوّله إلى محنة ويجعله سببا في الإعراض عن الحياة (الإسراف في الزهد) أو في معاداتها (الإرهاب) أو تقصيرٍ يصل حدّ التفريط في الأسس و"الانحراف عن الفطرة الإنسانية السوية التي فطر الله الناس عليها". 

 

لابد للمفتي، من وجهة نظر الباحث، أن يكون على قدر كبير من الحلم والوقار والسكينة والتقوى. ومنها العلميُّ. فيكون عالما بالفقه أصلا وفرعا ومذهبا محيطا بأدلة الأحكام بصيرا بمقاصد الشريعة الإسلامية عارفا بأقوال الفقهاء في مواضع الإجماع ومواقع الخلاف ملمّا بقدر من علوم العربية.

 



وضمن هذا الهم الاجتماعي يرنّ في أذن القارئ صدى الواقع التونسي الراهن بين أسطر الكتاب. فقد ظهرت شريحة جديدة من المتدينين المتأثرين بمواقع الأنترنت وبدعاة القنوات الذين يستقطبون محدودي المستوى العلمي ويغرونهم بمراجع توسّع مفهوم البدعة توسيعا معطلا للحياة وتمنع المباح.  

فيقول "إن المتأمل في حال الأمة اليوم يرى استباحة الفتوى ممن لم يتأهل لها حتى تجاسر بعض المبتدئين في علوم الشريعة، وقد رزقوا نصيبا من التدين، على الفتيا وهم غير أهل لها، ولربما غالى بعضهم فخطّأوا العلماء المبرّزين في هذا الشأن، ولربما استند هؤلاء إلى بعض كتب الفقه ظنا منهم أنّ وجود المسألة في كتاب ما يجعلهم في حلّ من البحث عن أدلتها". لذلك ظل يكرر في مختلف مباحث الكتاب على ضرورة أن ينزّل المسلم سلوكه منزلة وسطا بين الإفراط والتفريط.

لقد عمل الباحث على تأصيل الوسطية وسعى إلى أن يكون مجتهدا، متجاوزا للتحجر. فأعرب عن رغبة حقيقية في تطوير المقاربات الدينية وتعميق صلتها بالرّاهن. وضمن نواياه الحسنة هذه عمل على تسييجها بتحديد ضوابطها الشرعية حتى لا تكون مدخلا للتفريط في الدين. وأبدى امتعاضه من الأصوات المنادية بفتح باب الاجتهاد أمام الجميع، بحجة أن لا أحد يمتلك حقّ التحدث باسم الإسلام وباسم الشريعة، أو أحد يمتلك الحقيقة. ولكنّ النوايا الحسنة وحدها لا تكفي. فينطلق من أهمية الفتوى ومن اعتبار السلف المفتي "قائما في الأمة مقام النبي" و"خليفته ووارثه" ومن كونه "موقعا عن الله فيما يفتي به". فيجعل ذلك بابا لضبط شروط المفتي معيدا تكريس تلك الحواجز التي وضعها الأصوليون أمام عمل المجتهد فسدوا بها باب الاجتهاد. 

من هذه الشروط الأخلاقيُّ فلابد للمفتي، من وجهة نظر الباحث، أن يكون على قدر كبير من الحلم والوقار والسكينة والتقوى. ومنها العلميُّ. فيكون عالما بالفقه أصلا وفرعا ومذهبا محيطا بأدلة الأحكام بصيرا بمقاصد الشريعة الإسلامية عارفا بأقوال الفقهاء في مواضع الإجماع ومواقع الخلاف ملمّا بقدر من علوم العربية. وتتمثل الشروط الذهنية في ركام من المعارف العامة والخاصة ذات الصّلة بالعلوم الإنسانية.  

والمفارقة هنا أن هذا الباحث الداعي إلى التوسّط وإلى فتح باب الاجتهاد يبدو أحيانا أكثر مغالاة من القدماء أنفسهم. فأبو حامد الغزالي مثلا حاول قصر معارف المجتهد على العلوم على اللاّزمة لتحصيل الاجتهاد وبحث عن عنصر التخفيف. فقاوم اشتراط حفظ القرآن كله أو العلم بالأسانيد الصحيحة أو حفظ أربع مائة ألف حديث كما هو منقول عن ابن حنبل.

ولم يخل الأثر من بعد سجالي وشغل المؤلف بالتفكير في الردّ على الخصوم والمناوئين في الفضاء الثقافي التونسي وتبكيتهم. فكان يستهدف الغلاة من المتأثرين بالخطاب الجهادي الذين ظهروا خاصة بعد الثورة واستفادوا من مناخ الحريات لحشد الأنصار وفرض نموذج في التدين غريب على المجتمع التونسي من جهة ويهاجم رموز الحداثة الذين يحترزون من فرض الشريعة على المجتمع باعتبار الشريعة متعددة بتعدد المذاهب وباعتبار المشرع لا يستند إلى النص فحسب وإنما إلى السياق وإلى تصوره هو وخلفيته المذهبية. فالمالكي، عندهم، الذي ينتصر إلى مدرسة الحديث، عند التعاطي مع الأدلة الشرعية التكميلية أو التبعية، سيختلف جوهريا في تخريج الأحكام عن الحنفي الذي يستند إلى الرأي. فمنع هذا السّجال الباحث من توجيه كل طاقته لتعميق بحثه في المسألة في ذاتها ولذاتها.

 

إقرأ أيضا: الوسطية في التشريع الإسلامي.. هل تكفي للحد من التطرف؟


التعليقات (0)
الأكثر قراءة اليوم

خبر عاجل