مقالات مختارة

سلاح الوقت وحصانة الأرقام

غسان شربل
1300x600
1300x600

كان ثقل الدول يقاس بحجم جيوشها الجرارة. أو بقوافل سفنها التي تمخر البحار وتفرض سطوتها. وكان لا بدَّ من التنبه لعدد المحاربين وعدد المدافع. القصة اليوم مختلفة. يقاس ثقل الدول بحيوية اقتصادها. قدرته على الإنتاج والتسويق والمنافسة والتقدم.

لا طمأنينة لدى جيش قوي مكلف ما لم يستند إلى اقتصاد قوي مزدهر قادر على توفير مستلزمات التحديث والتدريب. اختلفت معايير القوة. تستطيع دولة صغيرة مزدهرة أن تعثر لنفسها على مكان في خريطة اهتمامات سكان الأرض، وهو ما يمكن أن تعجز عنه دولة شاسعة تقيم تحت ركام أفكار بالية خائفة من امتحان الوقت والأرقام.

العقود الماضية تقدم أكثر من دليل، لا تمتلك اليابان جيشا استثنائيا، ودستورها يصرُّ على استخلاص العبر من مغامرات الماضي. لكن اليابان تحوَّلت لاعبا كبيرا على الساحة الدولية حين بنت اقتصادا حيويا سبقه اهتمام قديم بالتعليم أهّل اليابانيين للانخراط في العصر وورشة الابتكار الضرورية لاقتناص الفرص والعقود والمواقع البارزة في الأسواق. يمكن قول الشيء نفسه عن ألمانيا التي لم ترد على إقامتها تحت ركام الحرب العالمية الثانية بحرب جديدة بل ردت بالمصانع والجامعات والمختبرات. ردت بأرقام اقتصادها الذي مكّن أنجيلا ميركل من لعب دور يشبه دور السائق للقاطرة الفرنسية - الألمانية للاتحاد الأوروبي.

لم يُقتل الاتحاد السوفياتي بقنبلة أميركية أو أطلسية. قُتل في معركة الوقت والأرقام. انهار حين خسر حرب الوقت وازدادت الهوة التي تفصل بينه وبين الولايات المتحدة في السباق التكنولوجي الذي ترافق مع سباق تسلح باهظ. حين ينتقل سلاح الوقت إلى يد خصمك عليك الاستعداد لدفع الثمن. خسارة الوقت تعني الشيخوخة وتصلب الشرايين والوقوع في الجمود والانحسار وهكذا كان. قُتل الاتحاد السوفياتي في معركة أخرى هي معركة الأرقام. لم يجرؤ على التحديق صراحة في المرآة. تلاعب «الرفاق» أحيانا بأرقام الخطط الخمسية والإنتاج الصناعي والمحاصيل حرصا على صورة الحزب والبلاد. ثم تبين أن التلاعب قاتل.

مسكينة الدول التي تصرُّ على الغرف من القاموس القديم. الدول التي تبدد مواردها في حروب تعمق إقامتها في الماضي والفقر والضياع. الدول التي تبدد إرث الزمن الغابر وفرص الزمن المقبل لرفضها الوقوف أمام المرآة ومواجهة الحقائق. القناعة بأنَّ الزمن تغير هي الشرط الأول للحد من الأضرار.

يخطئ كثيرا من يعتبر أن الوقت مجرد تكرار، وأنَّ العقد الحالي إعادة للعقد السابق. ويصدق الأمر نفسه على مسافة زمنية بحجم السنة. صحيح أنَّ الوقت يتدفق اليوم كما كان يتدفق دائما. لكن الصحيح أيضا أنَّ هذه الثورات العلمية والتكنولوجية المتلاحقة أعطت لهذا التدفق وتيرة أخرى وروحا أخرى. والحقيقة هي أن هذا العالم السريع الموتور لا تغريه استراحة أو وسادة. إنه دائم التحفز وعميق الشراهة ويحمل جوعا إلى الجديد والمزيد والمختلف والأحدث. انقضى إلى غير رجعة زمن المشاهد الثابتة التي لا تتحرك ولا تتغير. يعطي الزمن الانطباع أنه أسرع من السابق. يتدفق بقوة غير مسبوقة.

هذا يصدق على الطائرات والسفن والسلع والأفكار. عالم لا يهدأ ولا ينام. يذهب الناس إلى أسرتهم وتبقى المختبرات والمصانع منخرطة في حروبها. حروب التقدم وتوفير الخدمات وجعل الحياة أقل صعوبة. والكلام الحاسم هو في النهاية للأرقام. لم يحدث سابقا إن كانت للأرقام الأهمية الحاسمة والقاطعة التي تملكها اليوم. الأرقام هي النص الأخير للحكم الذي تصدره المحكمة على شخص أو مصنع أو فكرة أو سياسة. لم يعد للكلام العاطفي والحماسي ذلك الوقع الذي كان يمتلكه سابقا. يسارع الناس إلى امتحان كل كلام بما ينتج عنه من أرقام.

حجز مكان لائق في القرية الكونية مشروط بالانتماء إلى اللحظة الحاضرة من عمر التطور والعالم. الامتحان بسيط وحاسم. القدرة على الوقوف أمام المرآة وحسن التعامل مع الوقت وإعطاء الأرقام مكانها الطبيعي هي العوامل الحاسمة. العلاج بالأوهام لا يعفي من صرامة الأرقام.

الصين نموذج صارخ لحسن الإفادة من الوقت والتسلح بالأرقام. أتقنت التعامل مع معركة الوقت في العقود الأربعة الماضية وها هي الأرقام تثير المخاوف من انزلاق العالم قريبا إلى «العصر الصيني». هذا التحول في موقع الصين حدث كبير من قماشة المنعطفات التاريخية. أي حدث من قماشة انهيار جدار برلين وإطلالة إمبراطوريات وانحسار أخرى. استوقفتني طويلا تصريحات وزير الخارجية الصيني وانغ يي. دافع عن حق بلاده في أن يكون لها نموذجها وطريقها. قال إن الديمقراطية ليست «كوكاكولا». وكان يقصد أن بلاده لا تعتبر نفسها ملزمة بارتداء الزي الغربي في الاقتصاد والعيش. وما كان لكلام الوزير أن يلقى الصدى الذي لقيه لو كان من بلاد تتجاهل أهمية الوقت والأرقام وتنام مطمئنة على وسادة الأوهام.

 

الحكومات الناجحة هي التي تحول الخريطة ورشة وتشعل شمعة الأمل وتستقطب الطاقات وتجرؤ على المثول أمام محكمة الأرقام. وفي الشرق الأوسط ترتدي تجربة السعودية في الأعوام الخمسة الأخيرة أهمية استثنائية. واضح أن «رؤية 2030» هي نقلة كبرى في حياة السعودية التي انخرطت فعليا في معركة الوقت والأرقام التي تترافق مع تحول عميق في المجتمع. وليس سرا أن الشرق الأوسط لن يصبح منطقة طبيعية للعيش قبل انحسار أوهام الشطب والإلغاء والكسر والخلع وشيوع لغة التحول والتقدم وبناء المؤسسات.

(عن صحيفة الشرق الأوسط)

1
التعليقات (1)
محمد ماضي
الأربعاء، 28-04-2021 06:57 ص
كل هذا الكلام من عالم الأوهام و الأحلام ما كان ليمر مرور الكرام لولا أن الأرقام تستطيع ان تفرض إرادتها على الشعب المسكين. مقال اكثر من رائع مع أنه لم يذكر أي شيء عن الفيلم الشهير Texas chainsaw massacre الذي هو أكثر من رؤية مستقبلية، إنه الفيلم الذي يحدد ماهية الحالة الإجتماعية العربية عام 2030.