تقارير

الحناشي لـ "عربي21": التونسيون أدركوا خطر الصهيونية مبكرا

عبد اللطيف الحناشي: التونسيون تعايشوا مع اليهود ولكنهم رفضوا الصهيونية  (عربي21)
عبد اللطيف الحناشي: التونسيون تعايشوا مع اليهود ولكنهم رفضوا الصهيونية (عربي21)

يواصل الدكتور عبد اللطيف الحناشي، أستاذ التاريخ السياسي المعاصر والراهن ـ جامعة منوبة ـ تونس، حديثه لـ "عربي21"، عن القضية الفلسطينية في وعي النخب التونسية.. ويركز في الجزء الثالث، وهو الأخير، على نشاط الحركة الصهيونية وعلاقة الأحزاب السياسية الرئيسية في تونس بالقضية الفلسطينية. 

حول النشاط الصهيوني في تونس

على صعيد تونس، انتقل عدد اليهود في هذا البلد العربي من نحو 50 ألف نسمة أواخر القرن التاسع عشر إلى أكثر بقليل من 100 ألف نسمة مطلع الخمسينيات من القرن العشرين. و ينقسم اليهود في تونس إلى طائفتين: الأولى "الغرانة"، ويعود أصلها إلى مدينة "الغرنة" الإيطالية، بحيث يحمل يهود هذه الطائفة الجنسية الإيطالية. أما الثانية، فهي طائفة "التوانسة" التي ينتسب أعضاؤها إلى سلالة قديمة، سكنت البلاد منذ القدم أو وفدت إليها من بلدان إسلامية أخرى، ويحمل اليهود "التوانسة" الجنسية التونسية .

وكان نشاط الحركة الصهيونية العالمية في تونس ملموسا، ويكشف عن ذلك العدد الكبير للجرائد التي أصدرها القياديون الصهاينة مثل ألفرد فالنزي أو فيليكس علوش أو ريني كوهين في الفترة الممتدة من مؤتمر بال 1897 حتى أوائل الخمسينيات، وهو عدد يفوق الثلاثين جريدة، ومعظمها ناطقة باللغة الفرنسية. 

لقد تقلصت "جماهيرية" الحركة الصهيونية في تونس أواخر الثلاثينيات، ويرجع ذلك إلى سببين أساسيين: الانتفاضة العربية الكبرى في فلسطين (1936 ـ 1939)، ووصول "الجبهة الشعبية" إلى السلطة السياسية في فرنسا سنة 1935. وقد انقسم من جراء وصول اليساريين الفرنسيين إلى الحكم عدد كبير من الصهاينة إلى فريقين: فريق ضرب بقناعته الصهيونية عرض الحائط وانتهج سبيل الاشتراكية، وفريق انكفأ عن صهيونيته باليمينية واختار "أهون الشرين" أي "الصهيونية الاشتراكية"؛ ناسجا بذلك على منوال اليهودي الصهيوني ليون بلوم زعيم "الجبهة الشعبية" الفرنسية والعضو في "الوكالة اليهودية العالمية".

ضمن هذه الرؤية، يقول الدكتور عبد اللطيف الحناشي لـ "عربي21": "كانت علاقة الأقليّة اليهوديّة بالبلاد التونسيّة والتونسيين عموما جيدة، في الساحات والأسواق والحارات وأماكن الغدو والرواح... غير أن مجموعات عدة ضمن هذه الأقلية، قد نشطت في إطار الحركة الصّهيونيّة واصطدمت تطلّعاتها ببعض "مشاعر" التونسيّين العرب المسلمين، فكان الفضاء الجغرافي التونسي مجالا للنّقاش والصّدام، بل وحتى المواجهة أحيانا بين التّونسيّين مسلمين من ناحية ويهود تونسيّين وغير تونسيّين مقيمين بالبلاد من جهة أخرى، حول قضايا تتعلّق بفلسطين وبالصّهيونيّة، الأمر الذي ولّد جدلا فكريّا وسياسيّا حول قضايا مرتبطة بالقضية الفلسطينيّة والصّهيونية، وبوضعية الأقليّة اليهوديّة بالبلاد و"وطنيتها"، كما طرحت مسألة انتمائها للفضاء التونسي بأبعاده المتعدّدة على خلفية نشاطاتها الصّهيونيّة، وخاصة ولاءها وسعيها لتأسيس وطن بديل". 

وأضاف: "شكّلت كل تلك القضايا مادة ثرية تعبّر عن حيويّة الخطاب السّياسي في تونس وانفتاحه ،وفي الوقت نفسه التزامه بقضية الشعب الفلسطيني من جهة، وتشبّثه بوطنيّة الأقلية اليهودية في البلاد من جهة ثانية".

وتابع: "لقد أكّد الخطاب، منذ العشرينيات، الهويّة التونسية للأقلية اليهودية بالبلاد، وقد ترك ـ الحزب الحر الدستوري التونسي ـ الباب مفتوحا أمام اليهود للانضمام إليه، وخصص مقعدين في أعلى هيئة للحزب ـ اللّجنة التنفيذية ـ لأفراد النخبة اليهودية في البلاد التونسية.

 ورغم عدم استجابة هؤلاء إلى الانخراط في الحزب الدستوري، فإن المحاولات قد استمرت لإشراكهم في الهمّ الوطني العام، غير أن قطاعا مهما من اليهود قد اختار الحركة الاشتراكية والشيوعية الفرنسية بتونس، وخاصة الحركة الصهيونية، بديلا عن الأحزاب والمنظمات الوطنية التونسية، كما أن اليهود التونسيين الذين لم يتعاطفوا مع الحركة الصّهيونيّة، أو الذين عارضوها وعملوا في إطار الأحزاب والحركات الاشتراكية، أو الذين ظلوا مستقلين، لم يسعوا لتأسيس جمعيات أو منظمات مناهضة للصهيونية كما هو الحال في بعض الدول العربية... الأمر الذي ضاعف من الهوة الفاصلة بين التونسيين؛ مسلمين ويهودا، على خلفيّة القضية الفلسطينية والنشاط الصهيوني أساسا... حيث برز هؤلاء موضوعيّا في نظر أغلبية التونسيين متعاطفين مع الحركة الصهيونية.

وكانت حكومة بورقيبة من بين الحكومات العربيّة القليلة التي ارتبطت بعلاقات متميّزة بالمؤتمر اليهودي العالمي، وقد تكون أول حكومة عربيّة ضمّت وزراء يهودا في عهدها الأول، وهي من بين الحكومات العربيّة القليلة التي تمتّع فيها اليهود بوضعيّة "المواطنة" بحسب المعايير الدولية المعاصرة. وكان بورقيبة من أشدّ دعاة الوفاق بين التونسيّين واليهود في مرحلة التحرّر الوطني، وهو من أوائل الرؤساء العرب الذين نادوا بضرورة الاعتراف "بإسرائيل" صراحة، مطالبا بضرورة الرجوع إلى الشرعية الدولية والقبول بقراراتها، واعتماد التكتيك المفضل عنده "خذ وطالب"، ورغم الخيبات التي مني بها إثر رفض العرب دعوته وعزوفه عن الاهتمام بتلك القضية بل وبالقضايا العربية عامة، ومحاولته أن يكون مستقبل تونس بمعزل عن المستقبل العربي، إلا أنه انتهى باتخاذ قرار مناقض لذلك تماما، الذي يتمثّل في انتقال مقر الجامعة العربية إلى تونس في عام 1979، وأن يستقر الفلسطينيّون الذين ضاقت بهم البلاد العربية، في الأراضي التونسية سنة 1982، بعد خروجهم من بيروت.

كيف تفاعل الخطاب السياسي التونسي مع القضية الفلسطينية؟

لقد ركّزت جلّ الكتابات الفلسطينيّة والعربيّة التي تناولت موضوع تفاعل العرب، شعوبا ومنظّمات وأحزابا وصحافة وحكومات، مع قضية فلسطين على بلاد الشام ومصر دون غيرها من المناطق، في الوقت الذي غيّبت فيه مسألة تفاعل المغرب العربي عامة والتونسيّين بالخصوص، مع تلك القضيّة ودورهم في مساندة نضال الفلسطينيّين خلال الفترة المدروسة على الأقل... وهو ما يشكّل حافزا إضافيا لإبراز حدود هذا التفاعل ومضامينه، والأسس التي ارتكز عليها، ومحاولة سدّ بعض من هذا الفراغ.

في هذا السياق، يقول الدكتور عبد اللطيف الحناشي لـ "عربي21": تسعى محاولتنا كذلك إلى المساهمة في رصد مكوّنات التفكير السّياسي في تونس تجاه القضية الفلسطينية، تفكيكا وتحليلا، خاصة أنها قضية تحرّر وطني ذات مميزات خاصة، شغلت التونسيّين والحركة الوطنية التونسية بقدر يوازي أحيانا انشغال التونسيين بقضيتهم الوطنية... كما تندرج هذه المحاولة ضمن النظر في تحديد درجة مساهمة القضية الفلسطينية، بأبعادها المختلفة، في تعميق الوعي السياسي الوطني والعروبي بالبلاد التونسية في فترة الاحتلال. 

فقد تابع الخطاب السياسي التونسي أحداث فلسطين منذ بداية العشرينيات، إلا أن فهمه وإدراكه لطبيعة ما يجري كان محدودا في البداية، وقد تفاعلت عدة عوامل داخلية وخارجية ساهمت في تعميق الوعي بطبيعة تلك المشكلة من ناحية، وطبيعة الصهيونيّة وأهدافها من ناحية أخرى.

 

تفاعل الخطاب السياسي في تونس أيضا مع جميع الأحداث والتطورات التي عرفتها القضية الفلسطينية بعد الحرب العالمية الثانية، ورفض جميع المبادرات التي طرحت لحلها، وراهن على الحرب التي رأى فيها حلا وحيدا وخلاصا نهائيّا لمأساة الفلسطينيين

 



وقد ساهمت السياسة البريطانية في فلسطين والنشاط الصهيوني عموما في تعميق إدراك الخطاب للمشروع، ومن تلك المنطلقات أدرك أيضا طبيعة المقاومة الفلسطينية المزدوجة ضد الصهيونية والاستعمار البريطاني في فلسطين، وقاوم الحركة الصهيونية في البلاد التونسية انطلاقا من تمييزه الواضح بين اليهودية باعتبارها دينا سماويّا، والصهيونية باعتبارها فكرة سياسية، تعمل من أجل إقامة دولة على حساب أرض شعب تربطه مع التونسيين أواصر اللغة والدين.

وأدرك الخطاب طبيعة المقاومة الفلسطينية المزدوجة ضد الصهيونية والاستعمار البريطاني في فلسطين، وقاوم الحركة الصهيونية في البلاد التونسية انطلاقا من تمييزه الواضح بين اليهودية والصهيونية التي تعمل من أجل إقامة دولة على حساب أرض شعب تربطه معه أواصر اللغة والدين... 
وارتباطا بما يجري في فلسطين، طرح الخطاب بدائل سياسية عملية كمحاولة منه، منذ الثلاثينيات، لحلّ القضية الفلسطينية على أسس ديمقراطية.

وتبرز عمليّة تفكيك الخطاب السياسي في تونس إزاء القضية الفلسطينية والقضايا المرتبطة بها، أن رؤية هذا الخطاب لم تكن متجانسة في كثير من المسائل، كما أن أهداف النشاط لصالح القضية وانطلاقا من تلك الرؤى لم يكن بالحماس نفسه أيضا، ولا يفسّر ذلك بالضرورة بالخلفيات الفكرية والسياسية للأحزاب، كما يذهب البعض من الدّارسين، بل هو نتيجة لاعتبارات سياسية ظرفية - في الغالب- أدّت في مجملها دورا في بلورة تلك الرؤى.

وقد تكون وضعية البلاد وخصوصيّة الأحزاب الوطنية في تونس قد دفعتها في كثير من الأحيان للابتعاد عن اتخاذ مواقف مباشرة حول القضية الفلسطينية، في حين كانت صحافتها وخاصة القريبة منها تتابع الأحداث وتقدّم التحليلات الدقيقة، وتتّخذ المواقف بل وتدفع الناس لنصرة فلسطين ومقاومة الصهيونية. وفي بعض الأحيان تتخلّى تلك الأحزاب عن احترازاتها وتدلو بدلوها، خاصة عند المنعطفات. 

ورغم اختلاف الأصول الثقافية والاجتماعية بين قيادة الحزبين الدستوريين وانعكاس ذلك على مجمل مواقف الحزبين الوطنية والخارجية، ومنها القضية الفلسطينية والمسائل المرتبطة بها، فإن التباين بين الحزبين حول تلك المسائل كان جزئيّا ومحدودا، وحتى فهمها للصهيونية ولوضعية الأقلية اليهودية القانونية والمدنية والدينية كان متقاربا، باستثناء بعض القضايا التي برزت خاصة أواخر الأربعينيات، وبالذات قضية إدماج الأقلية اليهودية في الوظيفة العمومية، بأبعادها المختلفة.

وقد تفاعل الخطاب السياسي في تونس أيضا مع جميع الأحداث والتطورات التي عرفتها القضية الفلسطينية بعد الحرب العالمية الثانية، ورفض جميع المبادرات التي طرحت لحلها، وراهن على الحرب التي رأى فيها حلا وحيدا وخلاصا نهائيّا لمأساة الفلسطينيين وعبّأ الناس على هذا الأساس، إلا أن هزيمة الدول العربية، دفعت الخطاب لمراجعة بعضٍ من المسلمات ذات العلاقة بالقضية الفلسطينية؛ انطلاقا من بحثه عن أسباب الهزيمة، وطرح بدائل عملية لتجاوزها، غير أن الخيبة قد تعمّقت... فأخذت مساحة اهتمام الخطاب بالقضية الفلسطينية تتقلص شيئا فشيئا.

 

اقرأ أيضا: أكاديمي تونسي: الصدام الناصري ـ البورقيبي منطلق وعينا بفلسطين

 

اقرأ أيضا: مؤرخ تونسي: هكذا تجلت فلسطين في وعي سياسيينا قبل الاستقلال




التعليقات (0)