ما لكم تُغْزَوْن ولا تَغْزُون؟

تفتح وعي جيلنا السياسي على أدبيات اليسار العربي، الذي كان سيد الساحة الإعلامية بلا منازع لنحو ثلاثة عقود بدأت بالانقلاب على النظام الملكي في مصر عام 1952، وما تلاه من فورة حركات التحرر الوطني في مختلف أنحاء العالم العربي وعموم أرجاء المعمورة.. وكان الركن الرئيس في تلك الأدبيات مناهضة الاستعمار القديم والجديد. 

وبما أن الغرب الأوروبي-الأمريكي كان ممثل الاستعمار بتلكما الصيغتين، فقد كان كره الغرب سنة سياسية مؤكدة، وكان التقليد الثابت في كل التظاهرات السياسية في العاصمة السودانية سواء كانت احتجاجا على ارتفاع كلفة المعيشة أو حتى رفض الغزو السوفييتي لأفغانستان، أن يكون الهتاف كلما مر المتظاهرون أمام السفارة الأمريكية: داون، داون يو إس إيه (تسقط الولايات المتحدة).

وهكذا عاش جيلنا حينا طويلا من الدهر وهو يسيء الظن بالغرب عموما ويعتبره مصدر الشرور، وأعترف أنه ما زال بي الكثير من سوء الظن بالغرب (وهذا أمر عجيب لأنه لم يعد هناك "شرق" له حضور مواز أو مضاد للغرب في عالمنا الراهن)، وبلغت بي اليسارية الطفولية في مراحل مبكرة من حياتي أن كنت أستنكر أن تكون قرية غرينتش هي مركز الكون لحساب المواقيت، بدلا من ـ قُل ـ كركوك، وطالما أن الأرض كروية فلماذا لا يكون خط الاستواء في وسط أوروبا؟ (وكأني كنت أحسب أن ذلك سيجعل مناخ أفريقيا معتدلا، أو كأن خط العرض الرامز لنصف الكرة الأرضية قابل للتحريك)، ولماذا تحمل البحيرة التي ينبع منها نهر النيل اسم ملكة إنجلترا (فيكتوريا)؟ ولماذا يقال إن كولمبس هو مكتشف أمريكا بما يوحي بأنها كانت ضائعة إلى أن عثر عليها كولمبس وأعادها إلى كوكب الأرض ومن ثم إلى المجموعة الشمسية؟

لماذا هناك آلاف الأميال من الأنهار والبحار في العالم العربي ولا تنجب دوله سباحا واحدا متميزا في الساحة الدولية بينما عدم القدرة على السباحة وصمة اجتماعية في دول الغرب؟ لماذا ننتظر الغربيين ليأتوا لسبر أغوار تضاريس بلداننا؟ لماذا وقد كان للعرب الأقدمين قدح معلىً في مجال الموسيقى سلمنا آذاننا لمايكل جاكسون وليدي غاغا وجاستن بيير؟

وفي أحيان كثيرة أُرجع البصر كرات وكرات علني أجد في إنجازات بني قومي ما يبرر استنكاري لأمر غرينتش وفيكتوريا وكولمبس، فينقلب إلي البصر خاسئا وهو حسير، ما لم يكن ذلك عبر عشرة قرون على الأقل ليتولى تطييب خاطري أمثال سابور بن سهل والرازي وابن سينا رواد علوم الطب والصيدلة، وسرعان ما أصبح كسير الخاطر وأنا أرى الخوارزمي يبذل علمه ومعارفه ونظرياته الرياضية الناجعة في سيليكون فالي في جنوب ولاية كاليفورنيا الأمريكية، فغيّروا اسمه إلى الغوريثم algorithm ثم عادت إلينا بضاعته، وهي تحمل خاتما "صُنِع في أمريكا"، تماما كما الحاسوب الفلكي الأول، الإسطرلاب، الذي صنعه أبو إسحق إبراهيم الفزاري، والذي هجرنا وهاجر غربا وشوهد مرارا في وكالات أوروبية وأمريكية لعلوم وأبحاث الفضاء وصار اسمه إسترولاب، وكما الكاميرا التي وضع قواعد تصنيعها الحسن بن الهيثم في القرن العاشر الميلادي، ولم تجد من يتبناها فرحلت إلى الغرب وحملت أسماء مثل نيكون وكانون وكوداك، وإن احتفظت باسمها الأصلي محورا بعض الشيء لأن كلمة كاميرا تحوير لـ "قمرة" التي تعني الثقب الضيق الذي يمر منه الضوء.

تفاديا للقنوات التلفزيونية التي تنقض مشاهدتها الوضوء وقد توجب الغسل، صرت ومنذ انفجار البث التلفزيوني الفضائي وإمكان التقاط آلاف القنوات، زبونا دائما للبرامج الوثائقية الغربية وعلى وجه التحديد ما تبثه قنوات ناشُنال جيوغرافيك وديكسفري، لأنها في معظمها خالية من الدنس الفكري والأخلاقي، وتُدهش من يشاهدها بمستجدات في عوالم الصناعة والتكنولوجيا والعلوم الطبيعية والتطبيقية، يقف وراءها أناس غربيون عاديون لا تحفل بهم وسائل الإعلام كثيرا، ليس لأن ما أنجزوه عديم النفع والقيمة، بل لأنه في تقديرها في إطار ما هو متوقع بمعنى أن تعليق وسائل الإعلام الغربية على العديد من الابتكارات التي يأتيها الناس يكون بكلمة واحدة هي "عادي".

دعنا من الاختراع والابتكار والاكتشاف؛ لماذا هناك آلاف الأميال من الأنهار والبحار في العالم العربي ولا تنجب دوله سباحا واحدا متميزا في الساحة الدولية بينما عدم القدرة على السباحة وصمة اجتماعية في دول الغرب؟ لماذا ننتظر الغربيين ليأتوا لسبر أغوار تضاريس بلداننا؟ لماذا وقد كان للعرب الأقدمين قدح معلىً في مجال الموسيقى سلمنا آذاننا لمايكل جاكسون وليدي غاغا وجاستن بيير؟

ربما يحدث أو لا يحدث ذلك لأن حكامنا عبر قرون عدة سعوا لإلغاء عقولنا ومنعونا من طرح "الأسئلة"، ومن لا يسأل لا تأتيه الإجابة طوعا، وقتلوا فينا حب التجريب، ومن لا يجرب لن يعرف ما هو خطأ وما هو صواب، وانتقلت جينات القمع من الحكام إلى الآباء والأمهات فـ "ينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوَّده أبوه"، مثقلا بالأوامر والنواهي التي لا يقابلها تحفيز إيجابي في المواضع الصحيحة، ومحروما من حق النقاش في البيت والمدرسة ورحم الله أعمى المعرَّة:

قد يُحسَبُ الصّمتُ الطّويلُ من الفتى        حِلماً يُوقَّر، وهو فيه تخلُّف 

وكأني بالإمام علي كرم الله وجهه كان يخاطبنا حين قال في قومه قبل نحو 1500 سنة: 

فيا عجبا من جد هؤلاء القوم في باطلهم، وفشلكم عن حقكم. فقبحا لكم وترحا، حين صرتم هدفا يرمى، وفيئا ينتهب، يغار عليكم ولا تغيرون، وتغزون ولا تغزون.