هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
مدينة الثّقافة التونسية هل هي مملكة المبدع والمثقّف والفنان والمفكر أم إنّ البيروقراطية أوقعت بها في فخّها وجعلت منها مجرّد بناية ضخمة تضم مكاتب إداريّة؟ قد تكون نظرة تشاؤميّة إن حصرنا المدينة في شكلها البيروقراطي وقد يكون تعدّيا على مجهودات مبدعين لا يغادرونها بحثا عن فكرة أو تصور أو إنتاج، ولكن محاولتنا تسليط الضوء على المدينة يفرضها واقع أزمة يحثّنا على البحث عن حقيقة هذه التجربة.
هي ثلاث سنوات منذ انطلاق مدينة الثّقافة تسلّط عليها "عربي21" الضوء في استطلاع رأي يجيب عنه بعض المثقفين التونسيين.
يظَلّ القطاع الثّقافي من أكثرِ القطاعاتِ تضرّرا بسبب كوفيد-19 وبدرجات متفاوتة من بلد إلى آخر، لكن هل يتغيّر الوضع كثيرا ويصبح التّفاوت كبيرا في بلد أسّس لثقافته مدينة بأسرها في عمق عاصمته وتمتد على 8.6 هكتار؟ وهل تمكنّت السّياسة الثقافية الحالية من إثبات نجاعتها أمام هول الجائحة؟ هل توجد ثقافة استراتيجْيا الأزمة أم إنه لا يتمّ التفكير في الأزمة إلا زمن الأزمة؟ كثيرة هي الأسئلة التي تدور كالرّحى في ظرفيّة قلبت كلّ الموازين وحوّلت وجهة المدينة نحو رقمنة الثّقافة في بلد ما زالت بعض الجهات فيه تشكو الفقر والعجز حتّى عن تأمين الكهرباء والماء.
نبذة تعريفيّة
نقلا عن المنصّة الرّقمية لمدينة الثقافة، تضم المدينة ثلاثة مسارح ومتحفا للفنون المعاصرة بمواصفات دولية وثلاث قاعات عرض ومكتبة سينمائية ومركزا وطنيا للكتاب ومركزا دوليا للاقتصاد الثقافي الرقمي كما أن هذا الصرح يضم فضاءات فنون الفرجة التي بدورها تتفرع إلى مسرح الأوبرا ويتسع لـ 1800 مقعد، ومسرح الجهات الذي يتسع لـ 700 مقعد ومسرح المبدعين الشبان المجهز بـ 300 مقعد إضافة إلى ستة فضاءات أخرى للإنتاج والتمارين وفضاء للخزن.
تحتوي المدينة على أروقة للمعارض الفنية وخزينة وطنية للمقتنيات الفنية إلى جانب مجمع السينما، الذي يتكون من قاعتين، الأولى تتسع لـ 350 مقعدا (سينما المدينة)، والثانية لـ 150 مقعدا، دون أن ننسى المكتبة السينمائية وقاعة أوديتريوم التي تتسع لـ 100 مقعد.
ماذا قال المثقّفون التّونسيون عن مدينة الثّقافة؟
جمال البرقاوي (صحفي): قطب ثقافيّ عملاق...!
في حديث مع "عربي21" يقول الصحفي التونسي جمال البرقاوي: "مدينة الثقافة إضافة مهمة للقطاع بل ونقلة نوعية على عدة مستويات ومنذ الوهلة الأولى برزت كقطب ثقافي عملاق وخيمة كل المبدعين حتى إنها احتكرت الأضواء وسحبتها من بقية الفضاءات الأخرى كالمسرح البلدي وقاعة الكوليزي.. تظاهرات بأكملها من أيام قرطاج السينمائية والمسرحية الخ.. أضحت تقام بين أسوارها.. بل إن حتى اعتصام الفنانين في أصعب الأوقات احتضنته المدينة التي باتت أكثر أهمية من الوزارة نفسها من خلال البرمجة التنشيطية المرتبطة بالجهات وغير ذلك من المهام الموكولة لمختلف اختصاصاتها بما في ذلك الرواية والترجمة..".
ويستدرك الصّحفي بجريدة الأخبار التونسيّة قائلا: "إن هذا الألق خفت قليلا بسبب الآثار السلبية لجائحة كورونا على القطاع الثقافي على وجه الخصوص. ونظن أن المدينة التحفة والتي قل نظيرها على مستوى إقليمي بشهادة كثير من زوارها الأجانب ستستعيد إشعاعها ما بعد الكورونا شريطة أن تحظى بنفس الاهتمام والتنظيم الذي تميزت به في انطلاقتها...".
محمد عيسى المؤدّب (كاتب وروائيّ): الشجرة التي تحرق الغاب...!
أمّا الكاتب والرّوائي التّونسي محمد عيسى المؤدّب فلا ينكر أنّ "مدينة الثقافة قدمت الإضافة للساحة الثقافية التونسية.. وخاصّة في الاشتغال على التخصص: الرواية–بيت الرواية/ الترجمة–معهد الترجمة/ السينما/ عرائس الدّمى وغيرها من الفنون..".
ولكن يُلاحظ أنّ "الأنشطة الثقافيّة الوطنيّة الكُبرى اقتصرتْ على مدينة الثقافة التي أصبحت مثل الشّجرة التي تحرق الغابة ولا تحجبها فقط. فلا بدّ من حسن توزيع الأنشطة على كامل الجهات في تونس وإلغاء ما سُمّي بيوم الجهات لأنّه يوم فلكلوري، بلا جدوى، يستنزف المال العام، لا أكثر".
نزار الكشو (مسرحي تونسي): ساهمتُ في التّصحر الثّقافي ...!
"مدينة الثّقافة أو الواجهة الثقافية للبلاد التونسية أو مجمع الفنون والآداب والصناعات الثقافية أو الواجهة الرسمية للمعروضات الثقافية...."، هكذا اختار أن يبدأ المسرحي نزار كشو حديثه لـ عربي21، عن مدينة الثّقافة التونسية فاختار تسميات تختزل نظرته إلى المدينة بأكملها كُرّست للثّقافة في مختلف تمظهراتها.
ويواصل الكشو قائلا: "ثلاث سنوات من الأنشطة والإنجازات، ثلاث سنوات من العطاء، ثلاث سنوات من الإنتاج... مدينة الثقافة جلبت المؤسسات الثقافية بالجهات... مدينة الثقافة دخلت في شراكات مع عديد المتدخلين، فعديدة هي المآثر وكثيرة هي الآثار....". واستدرك قائلا: "لكنّها تترك لنا الأثر ولم تؤثر في المشهد لأنها ليست بمعزل عن المنظومة السياسية واختياراتها ولأنّها فاقدة للرؤية الدقيقة والاستراتيجيا الواضحة سواء في التكوين أو الإنتاج أو التوزيع أو التّرويج ...".
وأكّد المسرحي نزار كشو أنّ "مدينة الثقافة عزلت نفسها عن المشهد ولعلّ سبب ذلك المنظومة الممتدّة، منذ الثورة إلى الآن، وهي غير معنية بالثقافة شكلا ومضمونا وليس لديها مشروع ثقافيّ. فلا تعتني بالمباني ولا تهتم بالمعاني بل ساهمت في التصحّر الثّقافي وعمدت للتخريب وهي بصدد تدمير ما تبقّى وبالتالي فإن التعويل عليها لترميم الخراب هو بمثابة الحرث في البحر...".
وأشار نزار الكشو في نهاية حديثه مع "عربي21" إلى أن "مدينة الثقافة لم تُنجَز من أجل الفن وأهله وإنما كانت واجهةً لتلميع الصورة وتسويقها إلى الخارج على أنها عنوان من عناوين السياسة الثقافية "والعناية الموصولة" بالإبداع والمبدعين... وستستمر المدينة في لَعِب هذا الدّور التلميعي والدّعائي إلى أن يقوم فيها الأذان في غير توقيته".
عاطف بن حسين (مخرج وممثل تونسي): البيروقراطية قتلت روح المدينة...!
توجّهنا بذات السؤال التّقييمي لمردوديّة مدينة الثّقافة، إلى الممثّل والمخرج عاطف بن حسين الذي كان ضمن الهيئة المشرفة على المدينة وانسحب منها منذ سنة فقط.
يقول عاطف بن حسين في حديث مع صحيفة عربي21: "منذ افتتاحها ومدينة الثّقافة أشبه بلغز محيّر.... بقينا سنة كاملة بين التعيينات والتّدشينات وشُحّ في الأنشطة. وبعد ذلك جائحة كورونا. لذلك أعتقد بأنه لا وجود لتجربة في مدينة الثّقافة لنتحدّث عنها".
ولكن القول بعدم وجود تجربة لمدينة الثّقافة لم يمنع بن حسين من بعض الملاحظات، منها أنّ "المدينة تسير دون مخطط أو برمجة واضحة المعالم وربما لهذا أصبحت أشبه بدار ثقافة تحتضن برامج ولا تنتج ثقافة. اليوم مدينة الثقافة هي الفضاء الذي ينتظم داخله افتتاح المهرجانات الكبرى كأيّام قرطاج السينمائية وأيّام قرطاج المسرحيّة. فامتصت المدينة بفضائها المغلق جماليّة الافتتاح. وشغل المهرجان المدينة بأنشطة خارج أهدافها التي تأسّست من أجلها".
ويذهب عاطف بن حسين إلى أنّ "المدينة تاهت وسط الإدارات وأصبحت أشبه بوزارة تضم مكاتب إدارية تستقبل مثقفين وفنانين من أجل إجراءات إداريّة وابتعدت عن هدفها الأساسي في خلق ديناميكية ثقافيّة. والدّيناميكية ليست بعدد المثقفين الذين يدخلون يوميّا المدينة لقضاء مصالحهم الإداريّة، بل تكمن في الإنتاج وخلق تفاعلية مع الجمهور وتدريبه على تلقي الثقافة والتدرّب على الفرحة، وذلك بخلق حميمية مع الفضاء وهذه الحميمية أيضا باستغلال البرج والمقهى .... ....".
ويتساءل بن حسين مستنكرا: "اليوم هل نجحنا في استثمار قاعة أوبرا بـ 1800 مقعد؟ هل استفدنا من فضاء كهذا؟ طبعا تحوّلت قاعة الأوبرا بقدرة قادر إلى قاعة للحضرة وعرض الزّيارة وترويج ثقافة ’البخور‘ و’الجاوي‘ ".
سألنا عاطف بن حسين، "لمَ لم تبادر بتقديم مشروع والاستثمار داخل المدينة؟" فأجاب: "كما قلت لا يمكن لأي فنان الاستثمار داخل مدينة الثقافة كما سبق وشرحت لك، لقد نجحنا في خلق منظومة إدارية معقّدة، وبسرعة عجيبة خُلقت البيروقراطية وسُيّست الثقافة. لا توجد معركة فكريّة، لا يوجد مشروع ثقافي. لقد تاهت المدينة وسط الإدارات".
سفيان الفقيه (المدير العام لمسرح الأوبرا): "مدينة الثقافة موقع ومكان وليست مؤسسة"
تَحمُّس المدير العام لمسرح الأوبرا سفيان الفقيه، للمشروع للثّقافي كان واضحا وهو يحدّثنا عن الخطوط العريضة لتطوير أنشطة المدينة وتنويع إنتاجاتها، ولم يكن خافيا علينا نظرته الاستشرافية للمدينة انطلاقا من الحديث عن الخطّة التّنموية لمسرح الأوبرا، الذي لفت الانتباه مؤخّرا بأنشطته الرّقمية التي تندرج ضمن السّياسة الثّقافية لإدارة الأزمة الثّقافيّة الناتجة عن كوفيد-19.
انطلق سفيان الفقيه وهو يحدّثنا عن المدينة بتحديد بعض المفاهيم الأساسيّة فوضّح قائلا: "إنّ مدينة الثّقافة موقع ومكان وليست مؤسّسة. مدينة الثقافة مبنى بداخله مؤسسات. صحيح أن أكبر مؤسسة هي مؤسسة مسرح الأوبرا بحكم أنها تدير ثلاث قاعات كبرى: مسرح الجهات، وقاعة "مبدعون"، ومسرح الأوبرا. ولكن كل المؤسّسات تعمل من أجل تطوير سياستها الثّقافية والتعاطي الهادف مع الأزمة".
وأكّد سفيان الفقيه أنّه "منذ انتشار جائحة كورونا لم تتوقّف المدينة عن العمل. وكان الجميع في حالة تأهّب يعمل وينتج من أجل إحداث حركيّة ثقافيّة". وأضاف: "ربّما ليست بالحركيّة الواضحة الآن ولكن ستتجلى قريبا في إنتاجات ضخمة نشتغل عليها بمسرح الأوبرا، سواء مع الفرقة الوطنيّة للموسيقى وهي بصدد إعداد إنتاجات موسيقية هامّة جدا أو مع فرقة الفنون الشعبية، علما بأننا قد أطلقنا في بداية شهر فبراير من إنتاج مسرح الأوبرا عرض "روميو وجولييت".
وحول تجربة البثّ الرّقمي الذي توجّه له في الفترة الأخيرة مسرح الأوبرا، قال سفيان الفقيه: "إنّ لجائحة كورونا انعكاساتها السّلبية التي جعلت إدارة المسرح تفكّر في الاندماج في منظومة الرّقمنة والتي من المتوقّع أن تتحوّل إلى ممارسة ثقافيّة دائمة داخل المدينة وليس فقط حلاّ وقتيّا لإدارة الأزمة، وأكّد أنّ نسب المتابعة الكبيرة للسّهرات والحفلات التي بثّت رقميّا مشجّعة لإضافة عنصر الرّقمنة والبثّ الرّقمي ضمن استراتيجيا مسرح الأوبرا. وأكد أن المدينة بصدد الاشتغال على تحسين الجودة وتقديم بثّ رقميّ يرتقي إلى مستوى ما ينتظره الجمهور".
وأشار مدير مسرح الأوبرا سفيان الفقيه إلى أنّ "مدينة الثّقافة فضاء عموميّ من طرازٍ عالٍ يحتضن العديد والعديد من التّظاهرات في علاقة بالمسرح والسّينما والفنون. والمدينة تشتغل الآن على تعزيز صفوفها وإعادة تنظيمها وهيكلتها".
أمّا في خصوص التّعاون العربي مع مؤسسات عربية مشابهة وحول أفق إنتاج مشاريع عربية مشتركة، فقد أكد سفيان الفقيه أن "مسرح الأوبرا يعمل على دراسة إمكانيّات الشّراكة مع مسارح الأوبرا في عدد من الدّول العربيّة الأخرى وأنّ العمل جارٍ في هذا الخصوص".