كتاب عربي 21

القطيعة بين رأسي السلطة التنفيذية في تونس

نور الدين العلوي
1300x600
1300x600
نبدأ بالحوقلة، فالأمر جلل والبلد يتجه إلى كارثة أخف وجوهها أن تحل مشاكلها السياسية بتدخل خارجي يعلم أطفال السياسة أن يحافظوا على بلدهم من انهيار وشيك. ولو لم تكن آثار ما يجري تنعكس مباشرة على خبز الناس لقلنا إن ما يعرض أمامنا هو درس جيد في تعلم القانون عامة والقانون الدستوري خاصة، ولكنه درس أتى خارج زمن الدرس، فالزمن لم يعد يتسع لنقاش النخب المستريحة في مكاتبها.

لقد قطع الرئيس الشعرة الباقية بينه وبين رئيس الحكومة، ودفع إلى تصعيد لا نرى له أفقا إلا إسقاط نتائج انتخابات 2019 والذهاب إلى مجهول. ونعتقد أنها الخطة السرية التي ستحكم مصير البلد في ما تبقى من زمن سياسي معقول تحت سقف الدستور، طبقا لرغبة من انحاز للرئيس من جمهور استئصالي كان ينعته بالدعوشة وصار يراه المخلص. فالرئيس برسالة القطيعة التاريخية التي أرسلها مع صاحب البريد لم يترك لنا فجوة لاختلاق جمل متفائلة كنا نصطنعها للتعزي والتصبر.
قطع الرئيس الشعرة الباقية بينه وبين رئيس الحكومة، ودفع إلى تصعيد لا نرى له أفقا إلا إسقاط نتائج انتخابات 2019 والذهاب إلى مجهول

بادرة حل أرسلها رئيس الحكومة

أمام تعطل عمل الحكومة والإدارة عامة بادر رئيس الحكومة بحركة فيها تخفيض توتر، وذلك أنه أنهى خدمة وزراء معزولين في حكم القانون وكانوا ماكثين في الحكومة انتظارا لأداء معوضيهم لليمين بعد حصولهم على موافقة البرلمان. وأسند رئيس الحكومة الحقائب إلى وزراء بالنيابة، وفي ذلك رسالة للرئيس أنه لم يتحَدَّه ويمر بقوة معتمدا فقط على مصادقة البرلمان على الحكومة. وكان المنتظر أن يحدد الرئيس جلسة أداء القسم طبقا لاعتراضه الأول على بعض الأسماء (أي خطوة إلى الوراء مقابل خطوة رئيس الحكومة)، فإذا رسالته تتقدم في اتجاه عدم دستورية التحوير برمته، ليس فقط الوزراء المشبوهين، بما حول المشكل من اعتراض جزئي إلى اعتراض كلي بقراءة جديدة للدستور تجعل تعديل الحكومة من مهام الرئيس وليس من مهام رئيس الحكومة، ودون الحاجة إلى المرور إلى التصديق البرلماني. وهي قراءة توسع مهام الرئيس وتلغي مهام البرلمان ورئيس الحكومة في وقت واحد.
حول المشكل من اعتراض جزئي إلى اعتراض كلي بقراءة جديدة للدستور تجعل تعديل الحكومة من مهام الرئيس وليس من مهام رئيس الحكومة، ودون الحاجة إلى المرور إلى التصديق البرلماني. وهي قراءة توسع مهام الرئيس وتلغي مهام البرلمان ورئيس الحكومة

أصبحنا في وضع جديد.. حكومة غير شرعية وبرلمان غير ضروري ورئيس بصلاحيات الرايخ الثالث، ولم يبق أمام الحكومة إلا أن تعود إلى تحدي الرئيس وتعمل كأنه غير موجود أو تحل نفسها، ليصار إلى تشكيل حكومة جديدة يكلف الرئيس مرة أخرى رئيسها الجديد وتعرض على برلمان لا يؤمن الرئيس بدوره إلا شكلا. فجوة الأمل التي خلقها رئيس الحكومة صباح الاثنين سدها الرئيس عشية، فإذا يوم الثلاثاء مدلهم والجمهور الواسع يتندر بشكل الرسالة وخطها وطريقة إرسالها. وليس لأحد قدرة على توقع ما سيحصل في الأيام القادمة، لقد حصلت القطيعة.

على الأرض علامات أزمة تستفحل

اجتهد رئيس الحكومة خلال الأزمة الاجتماعية في حل بعض الإشكالات القائمة في الشارع، فأبرم اتفاقا تاريخيا مع نقابات التعليم وبدأت الحلول تظهر، واستبق التصعيد في قطاع الصحة فأبرم اتفاقا أنهى حركة احتجاجية مفتوحة، وظهر في مكان عام مع شباب محتج، مما فهم منه عدم هروبه من معالجة مسائل حيوية تتعلق بالحريات الخاصة. وكان اتفاقه مع احتجاجات الكامور يسير في طريق التنفيذ، بما جعل النقابة تخفت صوتها على الأقل في المركز. لكن وزيرة الصناعة وهي داخل الحكومة ناورت لإرباك اتفاق الكامور (بما كشف نيتها وأجندتها)، بما فجّر الوضع من جديد فاقتحم الشباب مقر المحافظة، فعاد مناخ عدم الثقة بين الحكومة ومفاوضها المكلف وبين الشباب المحتج.

النجاحات الاجتماعية المؤقتة لرئيس الحكومة لم تشفع له لدى الرئيس وأنصاره، كما لم تشفع له محاولاته تخفيض التوتر مع الرئيس، وهو ما يكشف أن الخلاف حول الحكومة ليس مقصودا لذاته، بل هو وسيلة/ ذريعة للذهاب أبعد من رفض التعديل إلى رفض الحكومة ورفض رئيسها الذي يرجم الآن بخيانة من كلفه، كأن التكليف مجرد أمر عسكري يقتضي التنفيذ بصمت طبقا لهوى المكلف (اسم الفاعل) لا بصلاحيات المكلف (اسم المفعول) طبقا لنص الدستور. يعيدنا هذا إلى بداية النقاش حول الصلاحيات فنفهم ماذا يريد الرئيس.
يريد حكومة مطيعة تنفذ برنامجه (الذي لم نعرفه بعد بالمناسبة) يكون له فيها وزراء يتجاوزون رئيسهم المباشر إلى الإصغاء فقط للرئيس. الرئيس لا يسمح لرئيس الحكومة بأن يكون رئيس حكومة، بل وزيرا أول في أفضل الحالات

إنه يريد حكومة مطيعة تنفذ برنامجه (الذي لم نعرفه بعد بالمناسبة) يكون له فيها وزراء يتجاوزون رئيسهم المباشر إلى الإصغاء فقط للرئيس. الرئيس لا يسمح لرئيس الحكومة بأن يكون رئيس حكومة، بل وزيرا أول في أفضل الحالات؛ يأتمر مباشرة بأمر الرئيس.

لقد كان مطلوبا من السيد هشام المشيشي أن يؤلف حكومة من وزراء يقترحهم الرئيس وحزامه وأن يذهب بها إلى البرلمان، وعلى البرلمان أن يصادق بصمت وخضوع. ولقد حصل جزء من هذا في إطار الترضيات بداية تشكيل الحكومة، فكان للرئيس وزراؤه منهم وزير الداخلية (منسق حملته الانتخابية في الساحل) ووزيرة الصناعة التي أعادت تفجير مشكلة الكامور. وقد فهم رئيس الحكومة أنه لم يعد قادرا على العمل بفريق مماثل (الجميع يتذكر المسخرة التي ارتبطت بوزير الثقافة الذي فرضه الرئيس فوصف رئيس الحكومة بالحاجب متجاوزا كل شكليات الاحترام التراتبي في حكومة شرعية). كما يتذكر الجميع خلفيات عزل وزير الداخلية الذي تجاوز القيادات الأمنية ورئيس الحكومة، وحاول فرض شخصيات أمنية في مواقع حساسة، وتبين لاحقا أنه ينسق مع الرئيس مباشرة متجاوزا رئيس الحكومة.

لقد كانت معركة على تملك السلطة التنفيذية دافع فيها رئيس الحكومة عن صلاحياته في مواجهة هيمنة الرئيس وفريقه المجهول. وانتهت إلى ما نحن فيه من عطالة سياسية لا أفق لها إلا حل الحكومة. أعلن رئيس الحكومة عدم الاستقالة، وأعلن رئيس الدولة عدم شرعية الحكومة، والقادم أسوأ. لن يمضي الرئيس على أي قانون تقترحه الحكومة ويصدره البرلمان، وهي ورقة في كفه يلعب بها كيف يشاء.

النقطة الصفر منذ 2011

لم نتقدم.. عدنا إلى معركة الاستئصال الأبدية، النقطة الصفر، وقد أعادنا إليها الحزام الجديد للرئيس. لم يعرف التونسيون أبدا سبب انسحاب حزام الرئيس الأول وإحاطته نفسه بحزام جديد لا نرى منه إلا رئيسة الديوان ومدير التشريفات/ البروتوكول الذي رأيناه أخيرا. لقد تغير أنصار الرئيس في الأعم الأغلب، ومن خلال المدافعين عنه نجد لفيفا غير متجانس إلا في نقطة واحدة: محاربة النهضة ومن قد ينحاز إليها. اتضح هذا الحزام بعد أن مال المشيشي إلى النهضة لإسناد حكومته وإن لم يقبل منها وزراء، لكن مجرد اعتماده عليها كحزام سياسي قلب الجمهور الاستئصالي ضده (نفس الجمهور رحب بالمشيشي في أسبوع التعيين قبل أن يكشف انحيازه) من منطلق أن الإسناد السياسي هو في المحصلة بقاء النهضة في موقع فاعل مؤثر ويحميها من الاندثار السياسي.
تغير أنصار الرئيس في الأعم الأغلب، ومن خلال المدافعين عنه نجد لفيفا غير متجانس إلا في نقطة واحدة: محاربة النهضة ومن قد ينحاز إليها. اتضح هذا الحزام بعد أن مال المشيشي إلى النهضة لإسناد حكومته

موقف الحزام الجديد للرئيس حول موقفه من شخص غير معاد للنهضة إلى عدو أول وبدأ تنفيذ أجندة حزامه الجديد. الاستئصال ولو بتخريب كل المسار الانتقالي الذي تربعت النهضة داخله، لذلك لنفهم الأزمة وجب أن نعرف الحزام وأجندته. لكن إلى أين يمكن أن يصل الحزام الرئاسي وما قوته الفعلية؟

إنهم ظاهرون في الصورة، النخبة التي ألفت حزب النداء الأول للباجي وحاولت دفعه إلى تنفيذ أجندتها فاستنكف عن حرب أهلية، وانحازت إليها حركة الشعب وحزب التيار الذي كبر بين 2014 و2019، ومعهم كل إمعة ينسب الفشل إلى حزب النهضة فقط؛ متغاضيا عن أن فترة 14-19 كانت فترة حكم الثورة المضادة بالرئاسات الثلاث وبحكومة من الفاسدين بشهادة أحد مؤسسيها (لزهر العكرمي).

نحن هنا الآن، وبوابة الحل بعيدا عن اللغو الشكلاني للرئيس: إذا تخلى المشيشي عن حزامه الحالي وأبعد النهضة وعزل قوتها البرلمانية فسيصير المسيح المخلص، إما إذا دفع الأمور إلى حرب ضد النهضة فيمكن أن تعرض عليه رئاسة ما بعد سعيد بل ربما قبل نهاية مدة سعيد نفسها. فهل يذهب المشيشي هذا المذهب؟ إنه مخرجه الوحيد من فشله الشخصي، لكن هل إثارة حرب استئصال على طريقة ابن علي غير ماثلة في ذاكرته؟

في آخر اجتماع له مع حزامه البرلماني أعلن انضباطه للدولة، لكن معرفتي البسيطة برجال الإدارة وبطموحاتهم الشخصية لا تجعلني مطمئنا لصموده فترة أطول في أزمة انهيار الحكم. يعرف حزام الرئيس ذلك وسيواصل الضغط على كل احتمال تنفيس مثلما فعل بالرئيس البارحة، وإن كان الرئيس قد كتب الرسالة بخط يده وبقلم الكوبيا القديم. فالرئيس الذي لم يصدق أنه صار رئيسا مستعد لأكثر من الحرب للبقاء في مكانه الجميل.
التعليقات (0)