هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
للجواسيس صفات مميزة، من أهمها التكيّف الثقافيّ والقدرة على استيعاب الآخرين والاندماج مع الثقافات المختلفة.
ويُعرف عنهم شدّة ملاحظتهم واهتمامهم بالتفاصيل، وسهولة استدعائها. كذلك يمتلك الجاسوس مهارات تواصليّة ولغويّة عالية تجعله أكثر تماهياً وتخفياً حول الآخرين، وبالتالي أقدر على جمع معلومات دقيقة وعميقة.
إذا أمعنا النظر في هذه الصفات، فسنجد أنها لا تختلف كثيراً عن صفات الأنثروبولوجي الجيد، أو الإثنوغرافي الذي يأخذ سنوات من عمره لمعايشة مجموعات ثقافية مختلفة قاصداً فك شيفرتهم الثقافيّة.
يشرح هذا المقال كيف تورّط الأنثروبولوجيون في الأعمال الجاسوسيّة في الولايات المتحدة الأمريكية، خلال الحرب العالمية الثانية، وكيف تم تجنيدهم خلال غزو العراق.
الأنثروبولوجيون كجواسيس
أسّس حقل الأنثروبولوجيا علماً خاصاً للعمل الميداني، وطوّر منهجيات للباحثين تساعدهم في اكتساب أفضل المهارات لكسب ثقة الآخرين، والتوغل في تفاصيلهم، وتخصيص سجلّات لهم مع ملاحظات وتحليلات معمقة. ولكن ما غفل عنه الأنثروبولوجيون كان تحديد نظام أخلاقي لمهنتهم التي قد يتم من خلالها استغلال معلومات شخصيّة وتعريض أصحابها للخطر.
كان الأنثروبولوجيّون، وحتى منتصف القرن الماضي، يجمعون بحريّة المعلومات الثّقافية، وكانت أبحاثهم تعتمد على تمويلهم الشخصي. ولم يكن هناك اتفاق على بروتوكولات لحماية شخوص الدراسة من خلال إخفاء معلوماتهم وتقديم أسماء مستعارة.
فبينما أخفت الأنثروبولوجية مارغريت أسماء الأشخاص والمدن في دراستها لسكان أمريكا الأصليين لعدم تعريضهم للمساءلة، فقد قدّم زوجها الأنثروبولوجي ريو فورتشن في دراسة أخرى معلومات دقيقة عن تلك المدينة وسكانها.
أما أستاذ مارغريت ميد، فرانس بواز الملقب بـ"أبي الأنثروبولوجيا الأكاديمية في أمريكا"، فقد كان موقفه واضحا في اعتراضه على تجنيد العلماء بالأعمال الجاسوسية.
وفي مقالة نشرتها مجلة "The Nation" تحت عنوان "العلماء كجواسيس" عام 1919، اتهم بواز أربعة من العلماء لم يذكر أسماءهم، باستغلالهم أبحاثهم الأكاديمية في التجسس خلال الحرب العالمية الأولى، وطالب بنزع الصفة العلمية عنهم.
لم تلق اتهامات بواز ردود فعل جديّة، وتم تهميشها من الوسط الأكاديمي، بل قامت الرابطة الأمريكية للأنثروبولوجيا (AAA)، التي شارك بواز بتأسيسها، بلومه، والضغط عليه للاستقالة من المجلس القومي للأبحاث.
واستمرّت الأعمال الجاسوسيّة تحت دافع خدمة الوطن، وشارك كثير من الأنثروبولوجيين الذين كانوا قد عملوا كجواسيس في الحرب العالميّة الأولى بأعمال تجسسية خلال الحرب العالمية الثانية. كانت تلك الفترة هي التي تنبّه فيها الجيش الأمريكي لحاجتهم إلى مهارات الأنثروبولوجيّين اللغوية، ومعرفتهم بالعادات والجغرافيا، وقدرتهم على جمع المعلومات.
ومنذ ذلك الحين، تم تجنيد الأنثروبولوجيين وعلماء الاجتماع للعمل كمحللّين استخباراتيّين، ومسوّقين للأجندات الحكومية، ومدربي لغة، وجنود مشاة، وضبّاط، وبالطبع كجواسيس. تفاعل الأنثروبولوجيون مع هذه المهام الجديدة وكان شعار بعضهم في تلك المرحلة: "سنريهم ماذا بإمكان الأنثروبولوجيا أن تفعله".
حفلة التجسّس
قبل الأنثروبولوجيون بحماس دعوة الحكومة وعملوا كمخبرين لمحاربة ألمانيا النازية واليابان خلال الحرب العالمية الثانية. واستخدم العلماء خلال الحرب ثقة مكانتهم العلمية كغطاء للتجسّس وقاموا بأدوار مركزية وخطيرة في جمع معلومات تخدم مكتب الخدمات الاستراتيجية، والوكالة الاستخباراتية السابقة، التي قامت بعمليات سريّة خلال الحرب وكان لها دور هام في الدعاية والتأثير على الرأي العام.
كان من بين مهام الأنثروبولوجيين القيام بدراسات تحليليّة للهويّات الوطنيّة والثقافيّة لبعض الدول، وتقديمها لجهات مختلفة مثل مكتب معلومات الحرب "Office of War Information" الذي أُنشئ خلال الحرب العالمية الثانية لدعم الدعاية الحكومية.
وبطلب من هذا المكتب، قامت الأنثروبولوجية الأمريكية روث بندكت، بدراسة إثنوغرافية عن بعد، شرحت فيها أنماط سلوك اليابانيين ونزعتهم الوطنية والعسكرية، اعتمدت فيها على الأدبيات والمنتجات الثقافية اليابانية، ومقابلات مكثفة مع يابانيين أمريكيين.
قدم كتاب "زهرة الأقحوان والسيف" محاولة لفك الشيفرة الثقافية لليابان، دولة الأعداء الأكثر غرابة، كما وصفتها بندكت في المقدمة، مؤكدة مقصدها من الدراسة: "كان علينا أن نفهم سلوكهم من أجل التعامل معه".
وفي الوقت الذي تجسّست فيه روث بندكت وغيرها من الأنثروبولوجيين لصالح الحكومة، كانت الأخيرة تتجسس عليهم في ظل حملتهم الشرسة على الشيّوعية. في الملف المخصّص لها، يظهر قلق مكتب التحقيقات الفيدرالي من الميول الشيوعيّة أو الاشتراكيّة التي تظهر من نشاطات روث بندكت الحركية في مواجهة العنصريّة وقضايا الجندر والفقر.
وأدى شبح الشيوعيّة إلى ظهور حركة عرفت بالمكارثية، كانت سبباً في اتهام أكثر من مائتي شخص بالعمالة تم الزج بهم في السجون، وطرد الآلاف من وظائفهم.
تدعونا حفلة التجسس هذه للتفكير في دور العلماء في القرن الحادي والعشرين، عندما شنت حكومة الولايات المتحدة الأمريكية حملتها العسكرية الدولية واخترعت كذبة "الحرب على الإرهاب" التي لا نزال ندفع ثمنها إلى الآن.
الظل الحربي للأنثروبولوجيا
كانت أحداث الحادي عشر من سبتمبر مبرراً جيداً للولايات المتحدة الأمريكية لشن حملتها على ما أسمته "الإرهاب". وكانت جملة "الحرب على الإرهاب" التي استخدمها جورج بوش الابن لأول مرة في سبتمبر 2001، بمثابة إعلان انطلاقة سلسلة من حملات اقتصاديّة وعسكريّة وإعلاميّة، أنتجت غزواً على العراق بدعوى تحريرها عام 2003.
وكان الأنثروبولوجيون خلال هذه الفترة منشغلين في كيفيّة تعريف الجيش بأهمية المعرفة الثقافية للخصوم. وتحوّلت هذه المهمّة بعد سنتين إلى مشروع عرف بنظام التضاريس البشريّة (HTS) أو نظام الطبيعة السّكانية. ويهدف هذا البرنامج إلى توظيف علماء التخصّصات الإنسانيّة مثل علم الاجتماع والأنثروبولوجيا لتوفير معرفة كافية عن السكان المحليّين، تشمل عاداتهم وطبائعهم وثقافتهم، لمساعدة القادة والموظفين من تحقيق أهدافهم العسكرية في العراق وأفغانستان.
انضم كثير من الأنثروبولوجيين إلى البرنامج لدوافع عدّة، بعضها كان أخلاقياً. فقد ظنّ البعض أنهم من خلال قيامهم بدور الوسيط وتفسير ثقافة الطرفين، يساعدون في التقليل من سوء التفاهم وحجم خسائر الحرب. ولكن من الواضح أن البرنامج برواتبه المرتفعة كان مغرياً للكثيرين، وحقّق نجاحاً سريعاً حيث أصبح له 31 فريقا، بميزانية 150 مليون دولار سنوياً.
وحتى عام 2012، كانت الاستخبارات العسكرية للبنتاغون تخطّط لمضاعفة حجم شبكة التجسس العالمية التابعة له، كما ظهر في تقرير نشرته صحيفة "The Guardian"، يؤكد اعتماد الحكومة على مئات الأكاديميين ورجال الأعمال في الأعمال الجاسوسية.
وعلى الرغم من نجاح المشروع في العراق والإقبال الشديد عليه، إلا أنه لاقى أيضاً الكثير من الانتقادات في الوسط الأكاديمي. وبعد أقل من عام من انطلاقة المشروع نشر المجلس التنفيذي للجمعية الأمريكية للأنثروبولوجيا (AAA) بياناً عارض فيه المشروع الذي اعتبره "تطبيقًا غير مقبول للخبرة الأنثروبولوجية"، يُعارض النظام الأخلاقي للجمعية. ولم تكن هناك استجابة حكومية على هذا الاعتراض، ولم يتوقف البرنامج حتى عام 2014.
اليوم تفتخر الجمعية الأمريكيّة للأنثروبولوجيا بمجموعة المبادئ الأخلاقية التي صاغتها، وتحثّ في أول مبدأ على عدم تعريض أي إنسان أو حيوان لخطر مباشر أو غير مباشر. وتدعو في مبدئها الثاني إلى الشفافيّة والصدق في العمل البحثي وعدم التلاعب في المشاركين في البحث أو إخفاء معلومات تخص تمويل البحث وأهدافه.
ورغم أن دور هذه المبادئ يقتصر على تثقيف الأنثروبولوجي، دون اتخاذ إجراءات في حال تجاوزها، تبقى هذه المبادئ أضعف ما يمكن فعله لإنقاذ حقل تورّط منذ ظهوره مع الحركات الاستعمارية وطوّر أدواته الاستخباراتية ليثبت حقاً ما بإمكان الأنثروبولوجي أن يفعله!