قضايا وآراء

عبد الستار قاسم.. أكاديمي حاصره وضوحُه

رفقة شقور
1300x600
1300x600
خاض عبد الستار قاسم حربه ضد المادية والرأسمالية وسيطرة رأس المال والأنماط الاستهلاكية على طريقته، لم يكتف بما كتبه بهذا الشأن وإنما كان مثالا حيّا في حياته اليومية لرفضه لما أسماه العبودية للاستهلاك.

لم يكن مدخنا ولطالما شرح لنا ذلك من منظوره بسلب التدخين لخيارات الإنسان الحرة وتحويلة لعبودية جرعة النيكوتين، كان يقول لنا بأن ثمن علبة السجائر في مجتمع تحت الاحتلال يمكن أن يتحول لصالح دعم صمود الناس، وهذا ما لم يفهمه أعداؤه في السلطة ممن كانوا يبذخون على أنفسهم من المال العام ما يكفي لحل أزمات مئات العائلات التي ضيّق عليها الاحتلال خياراتها وسلبها معيلها أو مصدر عيشها.

لم يكن باذخا في ملابسه، كان يمقت ربطة العنق ويميل للباس الشعبي الفلسطيني، لم يكن باذخا في سيارته فسيارته كانت قديمة جدا وكان يردد دائما بأن السيارة أداة توصلني لوجهة ما، لا أريد للسيارة أن تحدد وجهتي أو خياراتي، فقد كان يرى في الأنماط الاستهلاكية التي رسختها خطة السلام الاقتصادي لسلام فياض مهلكة وتقييدا للمقاومة الشعبية وضربة في مقتل، وشدد في أكثر من مناسبة على ضرورة ألا يتبع الشعب الفلسطيني هذه الأنماط المعيشية بالاعتماد على هبات المانحين، والتحول لأنماط من الاعتماد على الذات في إنتاج ما يغني الشعب الفلسطيني عن استهلاك منتجات الاحتلال.

كان محبا للبيئة ومحبا للأرض. في مساق صراع فكري أثناء دراستي الماجستير، وضمن أحد صفوفه في الامتحان النهائي بعد استعدادنا له لأسابيع وقراءة الكثير من الكتب المقررة وغير المقررة ضمن المساق، كان سؤاله الوحيد في الامتحان: أوجد العلاقة الجدلية بين قابلية التفريط في الأرض وعدم الانتماء لها وظاهرة رمي النفايات على الأرض.

حين بنى بيته كان حريصا على جعله يعتمد على الطاقة البديلة وعلى أساليب تستغني عن أي نقص قد تخلفه حالات الاجتياح الإسرائيلي لنابلس، فبنى بئرا ارتوازيا لجمع مياه الأمطار، واعتمد الخلايا الشمسية في إنتاج طاقة بيته. هو المحب للزراعة الكاره لكل ما قد يحدد الفلسطيني ويقوده للاعتماد على الاحتلال في أي مصدر من مصادر العيش، ظل يكرر عبارة "كلما قللت من رغباتك واحتياجاتك المادية قلت عذاباتك في هذه البلاد تحت الاحتلال".

اعتقل الاحتلال الإسرائيلي عبد الستار قاسم عدة مرات وكتب عن تجربته في سجون الاحتلال في كتاب سماه "ليالي تشارلي"، والذي كان لي الشرف بإعادة طباعة آخر نسخة ورقية منه وتحويلها لملف إلكتروني في العام 2005. وتشارلي هو المحقق الذي كان يتولى التحقيق معه خلال الاعتقال، وما كتبه في ذلك الكتاب من أهم ما قرأت في أدب المعتقلات والسجون العربية والعالمية.

تعرض عبد الستار قاسم للكثير من طرق التعذيب التي أضرت بصحته الجسدية، سواء في معتقلات الاحتلال الإسرائيلي أو معتقلات السلطة الوطنية، فقد كان يرتدي قفازات الصوف حتى شهر حزيران/ يونيو، وحين سألته مرة عن السبب فأجابني بأن شدة التعذيب بالماء الساخن والبارد والشبح في المعتقلات لساعات طويلة جعل أطرافه تظل باردة.

عبد الستار قاسم مفكر صاحب رؤية في كل تفصيل من تفصيلات الحياة التي أرهقت الإنسان في عصر الرأسمال، كان نظامه اليومي يعتمد على الاستيقاظ باكرا والعمل من ساعات الفجر الأولى والحركة الكثيرة ومخالطة الناس وهمومهم، وهذا ما كان يميزه، لم يكن مثل المفكرين الماديين الذين عاشوا تحت سطوة رأس المال فغادروا هموم الناس وعاشوا بترف وبذخ؛ منعزلين عن الناس مخلصين لمشروع فكري نظري لا ينزل من برجه العاجي كي يعيش الآلام الحقيقية للشعوب.

عبد الستار قاسم كان يتعامل بالتزام مع كل ما يكتبه، لم يملِ عليه ناشر في الشرق أو في الغرب أبدا شروطه، ولم يخضع لإغراءات رأس المال الأمريكي أو الأوروبي أو حتى العربي لفتح مركز أبحاث بتمويلهم، وإنما آثر أن يعمل مستقلا كي يضمن حرية محتواه. وفي ذلك اجتهد وعمل وأنجز لصالح القضية الفلسطينية أكثر مما تنجزه عشرات المؤسسات مجتمعة؛ ممن خضعت لإملاءات الداخل والخارج.

فرض عبد الستار قاسم الوضوح على كل من يتعامل معه، فكل من يتواصل معه يعرف أنه لا يقبل المواربة ولا الطرق الفاسدة والملتوية في التعاملات اليومية والأكاديمية. كان الفاسدون لا يستطيعون التظاهر أمامه، يعلمون تماما أنهم مكشوفون أمامه وأنهم بلا أقنعة بوجوده، فكان يؤذيهم ذلك العري الأخلاقي والفساد الصارخ الذي يرونه غير قابل للستر أمامه، لذلك كانوا يطعنوه في الخلف وحاولوا حرق سيارته أكثر من مرة وإطلاق الرصاص على صورتهم الواضحة في عيون ذلك المفكر الشجاع، رغبة منهم بالتخلص من حقيقتهم المفضوحة وغير القابلة للستر والمواربة.

العداوات التي أحاطت عبد الستار قاسم في محيطه الأكاديمي وفي المجال السياسي كان مبعثها نزاهته في محيط يعج بالتملق والفساد. الفرق الشاسع بين صورة المفكر الشريف والأكاديمي الذي يحارب الفساد بكل ما أؤتي من مصادر القوة الذاتية، وبين الفاسدين من الأكاديميين ورجال السلطة الذين رأوا التسلق عن طريق الانبطاح للإدارات الفاسدة والجري وراء أوهام السلطة وتقديم التنازل تلو التنازل؛ هو ما يجسد صورة الصراع اليومي الذي خاضه عبد الستار قاسم وهو ما كان يثير عداء الفاسدين نحوه. كانوا يودون لو يكون فاسدا فيكونون سواء، لكن كل محاولاتهم لاغتياله معنويا باءت بالفشل مما دفعهم لخوض حرب شرسة ضده في رزقه وحياته هو وعائلته.

عبد الستار قاسم وموقفه من طبقات الأكاديميين

في الحياة الجامعية كانت هنالك بين الأكاديميين طبقة أسست نفسها عرفا، وكان أساس تكتلها هو مصالحها الزبائنية المشتركة ونظرتها المتعالية لذاتها، بمعنى إن كانت الطبقة السياسية الحاكمة تفعل كذا وتستغل كذا، فلماذا نحن لا نفعل؟ عبد الستار قاسم خيّب آمال تلك الطبقة الفاسدة التي كانت ترسي أجواء أكاديمية على أسس عنصرية؛ إما عنصرية جنسية أو مناطقية أو مادية. لم يقبل عبد الستار قاسم الضغوطات التي مورست عليه من تلك الطبقة الأكاديمية الفاسدة، والتي كانت لها قاعدة شعبية بين الطلاب؛ إما لكونهم ناشطين فصائليا أو على المستوى الداخلي كناقلين وواشين للإدارة بمن يخالف سياساتها العامة أو الخاصة.

مارست تلك الطبقة الأكاديمية على عبد الستار قاسم محاولات النبذ والإقصاء التي وصلت حد رفع الدعاوى الكيدية ضده في المحاكم، تلك الدعاوى التي أرهقته لكنه لم يستسلم لإرهاقاتها.

عبد الستار قاسم رفض التكتل مع هذه الطبقة، وقرر أن يكون التغيير نفسه وانحاز لجانب الطالب/ة في الجامعة لأنه لم يكن يرهبه تهديد مصالح أو سجل فساد تلوح له به تلك الطبقة الأكاديمية التي كان عنوانها "مرقلي بمرقلك".

كان يرى واجبه كأستاذ بين الطلبة أن يكون نموذجا سابقا على تجسيد ما يقوله، كان يرى في تلك الطبقة الفاسدة تلوثا فكريا وحضاريا في ذلك الوسط الأكاديمي الذي أغرقته الفصائلية والمناطقية بفسادها.

العزلة التي فُرضت عليه في ذلك الوسط بسبب مواقفه بالتأكيد شكلت تشويشا كبيرا عليه، لكنه رغم ذلك لم يرضخ لإملاءات تلك الطبقة. كانت نظرته نظرة التزام ومسؤولية تجاه طلابه، يُقدم طلابه على نفسه وعلى إرضاء تلك الطبقة، وهذا أكثر ما كان يزعجهم.

رأى بأن التخلص من الاحتلال قوامه عدم التنازل عن الحقوق جميعا، وكان يرفض أن تكون الأجواء الأكاديمية تمرين على التنازل عن الحقوق، لذلك لطالما وجه طلابه لاسترداد حقوقهم وتحصيلها وعدم التفريط بها ولو كلفهم ذلك مواجهة أي كان.

لقد كان حريصا على زرع الثقة في نفوسنا، وإيماننا بالحق والعدالة وضرورة السعي وراء انتزاع الحقوق كاملة.

رأى بأن المدخل للتحرر من الاحتلال يبدأ بالتغيير الداخلي والفكري ودعم العلم والتعليم، رغم كل التحديات لم يستسلم.

ربما لن يتذكر الناس عدد المرات التي خرج منها من محاكم فلسطينية مخذولا بسبب الدعاوى القضائية الكيدية التي رفعت بحقه، لكن تعامله مع تلك الوقائع كان يعكس صلابة حتى النفس الأخير بالثبات على الموقف وعدم تغيير الوجهة.

لم يكن عبد الستار قاسم يحب الحلول السهلة للمسائل التي يقتضي حلها بذل مجهودات كبيرة، لم يعرف قاموسه مصطلح التنازلات والانحناء حتى تمر العاصفة، وإنما قارع العواصف من حوله واقفا ولم يهتز.

أكثر ما يعجب طلابه به هو انتماؤه لهم وشعوره معهم ومعاناة أهلهم. لم يتعامل عبد الستار قاسم مع الطالب الفلسطيني كما يتعامل أستاذ مع طلاب جامعة ليست في وسط محتل، توجيهاته كانت لا تخلو من رفع روح مقاومة الظروف الآنية من أجل مستقبل أفضل، وإن كان من أحد تمثل شعار تلك المؤسسة نتحدى الحاضر كي نرسم المستقبل فقد كان عبد الستار قاسم.

واهم من يظن أن عبد الستار قاسم يموت فكره وعمله، على العكس من هذا تماما، لقد أضاف أعمارا على عمره حين ترك ذلك النموذج وذلك الأثر في نفوس طلابه، ولو تحلينا بغربتنا أيضا بروح قتالية لتحصيل حقوقنا المدنية والمعنوية في أوساط عنصرية فله الفضل في ذلك، لأنه كان يردد دائما أن بعض الناس يجب أن يقاتلوا من أجل أن يصبح تحصيل الحقوق عادة لا معركة ولا امتيازا طبقيا.

رأى عبد الستار قاسم في أجواء الفساد المؤسسي بيئة حاضنة لدسائس الاحتلال وبيئة تدعم أمراض الاحتلال الاجتماعية والمؤسسية التي يريد أن يدعمها، حتى يستمر الطرف الفلسطيني في تخلفه عن المؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية.

شدد عبد الستار قاسم على ضرورة محاربة الفساد في المؤسسات الأكاديمية ودعم الجهود البحثية للطلاب، كمخرج من حالة الارتكان للاحتلال وسلطته على الفلسطينيين.

ليس من مقت عبد الستار قاسم لمواقفه زمرة الفاسدين بالمؤسسات، وإنما الاحتلال الذي كان يزرع جواسيسه لتخريب الأجواء الأكاديمية في الجامعات. كان الطلاب بأمسّ الحاجة لموجه لهم كعبد الستار قاسم؛ في بيئة امتلأت بالتحديات أمامهم من الصعوبات الاقتصادية في دفع الأقساط الجامعية والوصول للجامعة عبر سيل الحواجز العسكرية، إلى الصعوبات السياسية والصعوبات بالتأقلم مع أجواء فيها ما فيها من النديات والتشاحن.
التعليقات (1)
محمود الترك
الجمعة، 02-04-2021 09:17 ص
شدتني فكرة العلاقة بين تلويث أرض الوطن والتفريط بتراب الوطن فقد لامست عندي فكرة طالما تساءلت عنها العلاقة بين الثوابت الوطنية والتفريط بما داخل الخط الأخضر وهل يتجزأ اساس الثابت ويتشطر . وهل بقي لحلم العودة مكان لدى المفرطين . ربط النضال بإرادة الحياة وفلسفة وطريقة العيش يضيف قوة وطاقة حيوية وعزم ثوري لآلية النضال . رحم الله عبدالستار قاسم تحية للكاتبة