من أروع ما قرأت في كلمات رثاء الدكتور ما كتبه الدكتور أديب زيادة بالمعنى؛ "أن تقول الكلمة التي تعلم مسبقا أن مقابلها ستكون رصاصة في الرأس أو الصدر، ثم تأتيك الرصاصة ثم تعود لقولها ثانية وثالثة ورابعة، دون أن تتراجع قدماك قيد أنملة عن ثوابت القضية التي تؤمن بها وتنافح عن أحقيّتها بكل ما أوتيت من فكر وثقافة وعلم".
وقد شهدت الساحة
الفلسطينية والعربية من أدعياء الثقافة والمعرفة ما شهدت من تنوع كبير ومن زوغان وروغان عجيبين، إلى درجة أن تصبح الثقافة مفصّلة على هوى الحاكم بأمره أو المانح بأمر سيّده ووليّ نعمته. لقد وصل الأمر إلى أن ظاهرة الاستشراق التي شهدتها الثقافة العربية لم يعد المستعمر بحاجة إليها؛ لأن هناك من يقوم بمهمة الاستشراق مقابل المال، ما عليهم إلا أن يفتحوا مركز أبحاث ويستكتبوا الذين يبيعون أقلامهم وضمائرهم، فيكتبون لهم كل ما يريدون الوصول إليه.
وتكاثرت هذه الدكاكين الثقافية الاستشراقية ونخّلت مجتمعاتها تنخيلا فظيعا، وقدّمت من الثقافة المرتدّة ما قدمت، ووجدت من يفصّل نفسه فيكتب على هوى من يغدق عليه الرواتب الخيالية.
وإن شئت فاقرأ كتاب الدكتور خليل نخلة "فلسطين وطن للبيع" لتجد كيف عمل الأجنبي المستعمر وما زال يعمل بكل جد واجتهاد على هدم ثقافتنا وتغريب هويتنا الثقافية، مستخدما بذلك طابورا من قطيع المثقفين يتقن فن العبودية والتزلّف وتسخير القلم للاسترزاق، ولو كان ذلك على حساب بيع الذّمم، ووضع القيد في عنق الكلمة، والتخلّي طواعية عن أعظم قيمة يجب أن يبقى المثقّف الحرّ متمسكا بها، ألا وهي قيمة الحرية له ولشعبه ولأمته.
الدكتور عبد الستار قاسم خرج عن هذا السّياق الأسود وبقي حرّا شريفا، بل وخطا خطوات واسعة إلى الأمام، حيث كتب وصدع بكل ما يمليه عليه فكره الحرّ. لقد جسّد طيلة حياته الكلمة الحرّة المعبّرة عن نبض القضية الفلسطينية، وهذا ما يفسّر هذا الزخم الجماهيري الحرّ من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار الذي اجتمع على تشييعه، وودّعه بنشيد الحريّة ودموع الوطن الباكي على فراقه.
الدكتور عبد الستار مدرسة متكاملة الأركان عكف على بنيانها طيلة حياته، فلسطين بكل أبعادها التاريخية والجغرافية والحضارية حاضرة بكل كمالها وتفاصيل حقّ أصحابها فيها في أطروحاته وأدبياته، لقد مثّل بذلك الصورة الحية الكاملة التي تقف شاخصة واضحة وضوخ الشمس رابعة النهار، وواجه بذلك المهزومين الذين هزمت أرواحهم وأبدوا الاستعداد لقسمة فلسطين والتنازل في سوق النخاسة السياسية الرخيصة.
لقد أثبت برواية ثقافية دامغة زيف ما يدّعون، وحرق عليهم مقولاتهم المهترئة. لقد طرح نموذجا للمثقف الصادق مع شعبه وقضيته، وحتى لو تنازل السياسي فعلى المثقّف ألا يتنازل وأن يرابط في محراب الثقافة الوطنية الحرّة الصادقة. لماذا؟ لأنه سادن هوية شعبه الثقافية، وهو الأمين على كلّ تفاصيلها، وعندما هرول كثير من المثقفين وأنصافهم وأدعيائهم خلف السياسي الذي تساوق وانبطح مع مقولة عدوّه؛ كان الدكتور لهم بالمرصاد بكل جرأة ووضوح ومثابرة دأب عليها طيلة حياته، ثابتا منافحا منظّرا ومفنّدا كل أقوال المرجفين والمنبطحين.
ولم يتوقف الدكتور عبد الستار عند أسلوب واحد، بل كان له الباع الطويل في التأليف والأبحاث المحكّمة، وثابر على نشر المقالات عبر الصحف والمواقع الإلكترونية والمقابلات التلفزيونية المصوّرة، إضافة إلى المحاضرات والمشاركة في الندوات والمؤتمرات المتنوعة.
لقد شكل الدكتور عبد الستار نموذجا للمثقف المفكر الحرّ الصادق الشريف الرائد لشعبه وقضيته، الخادم الأمين لقضية الأمة المركزية. لقد صدق ما عاهد الله عليه، رابط في خندق الثقافة
المقاومة بكل قوة وعنفوان، وما بدّل أيّ تبديل حتى قضى نحبه وأتاه اليقين، ومن كان مثله لا يموت بما ترك من علم ومعرفة وفكر وسيرة طيبة شهد لها الناس.