لا تزال السلطة تنظر إلى ثورة يناير باعتبارها هاجسا تخاف منه، وعبئا يحذر منه رأس النظام المنقلب في كل لحظة، مهددا بأنه لن يسمح بتكرار أحداث يناير مرة أخرى.
وتؤكد تلك المنظومة الانقلابية ليل نهار أن تلك الأحداث عرّت فيها
مصر جزءا منها وكشفت ظهرها، وأطلق سدنة إعلامه ككلاب يعوون أن ثورة يناير لم تكن إلا المؤامرة، وأن تلك الأحداث استهدفت مصر الدولة واستقرارها لإحداث فوضى كبرى..
ثورة يناير التي استهدفت استعادة الوطن لمكانته، والمواطن لكرامته يصورها الانقلاب بأنها مؤامرة على الدولة، ويصور المواطن - كعادته - عبئا وفائضا لا تحتاج إليه.. الثورة التي مرت عليها
عشر سنوات كاملة؛ لا زالت تمثل له ومنظومته هاجسا وخطرا. قال إنه لن يسمح بتكرار أحداث يناير، وقلنا له إن الثورة ليست بسماحك،
وقال المنقلب "هتسألوني إيه أخبار التعليم.. هقولكم إيه أخبار
تحديد النسل"؛ ضمن خطاب السلطة المتكرر والمتواتر، وفي محاولة منها للتأكيد على خطر المشكلة السكانية، وفي سياق ردِّ بعض إخفاقاتها التنموية إلى مشكلة الزيادة السكانية. ويكمن في هذا الخطاب أمران:
• رؤية "مالتوسية" للمشكلة السكانية في مصر.
•رؤية تتضمن الإشارة إلى المواطن الغُرم، بما تُشكل كل زيادة سكانية في عرف الحكومة إضافة سلبية تلتهم كل تقدم، وتتآكل إزاءها كل معدلات التنمية في مقابل الزيادة السكانية.
بين هاتين الرؤيتين يولد ما يمكن أن نسميه: المواطن العبء. هذا ما يمكن أن نتبينه في خطاب السلطة المباشر وغير المباشر. وها هو د. رمزي زكي يقول: "كنت وما زلت أعتقد أن المشكلة السكانية في العالم الثالث ليست سبباً للتخلف وإنما نتيجة له، وهي لا تعبر عن تناقض يقوم بين أعداد السكان والموارد الاقتصادية المحدودة كما ذهب إلى ذلك المالتسيون (نسبة إلى "توماس روبرت مالتوس"، وهو باحث سكاني واقتصادي سياسي إنجليزي، مشهور بنظرياته المؤثرة حول التكاثر السكاني)، بل هي في حقيقة الأمر، تناقض يقوم بين السكان والنظام الاقتصادي- الاجتماعي السائد الذي يعجز في (ظل آليات حركته) عن أن يوفر الغذاء وفرص التوظيف والدخل للسكان..". إذن مجرى النهر السكاني طاقة إضافية وإمكانية مضافة، وسياسات الحكم تحولها إلى فاعلية أو عبء..
ويبدو - من هنا - أن حفظ النسل يأتي في النظام المقاصدي في كلياته الخمس ضمنها، وربما في الترتيب الثالث، لتعبر عن أصول النظر إلى ذلك كعملية تنمية بشرية وإنسانية، تعد نقطة الانطلاق في المجهودات التنموية للوصول إلى مستوى مُرْضٍ من الكفاية والرفاه؛ بما يعنيه ذلك من تقدم اقتصادي واجتماعي، وعدالة، وديمقراطية، وحماية لحقوق الإنسان. فالمسألة السكانية ترتبط ضمن علاقات تبادلية وثيقة بالمتغيرات الاجتماعية والاقتصادية، وبالإطار الثقافي، والوضع السياسي، وبحركة التنمية؛ من هنا فالمتغيرات السكانية هي صدى لبيئة مجتمعية أوسع.
عند رسم السياسات السكانية تنبغي مراعاة اعتبارات العدالة الاجتماعية، وتكافؤ الفرص للأجيال الحاضرة والأجيال القادمة، وحق كل منها في التمتع بثروات الوطن، الأمر الذي يتطلب تنمية مستمرة لهذه الثروات بما يلبي احتياجات الأجيال
عند رسم السياسات السكانية تنبغي مراعاة اعتبارات العدالة الاجتماعية، وتكافؤ الفرص للأجيال الحاضرة والأجيال القادمة، وحق كل منها في التمتع بثروات الوطن، الأمر الذي يتطلب تنمية مستمرة لهذه الثروات بما يلبي احتياجات الأجيال الحاضرة دون الحد من إمكانية تلبية احتياجات أجيال المستقبل، ودون أن تكون رفاهية الأجيال الحالية عن طريق المزيد من القروض الاقتصادية والبيئية التي يتعين أن تسددها أجيال الغد. فتخرج حالة من "
المواطنة المثقلة" أو "المواطن المهموم" الذي يعد دَيْن الدولة على كاهله همّاً بالليل وذلاً بالنهار.
لقد غلبت النزعة المالتوسية على غالبية من كتبوا في مشكلات البيئة والمشكلة السكانية؛ بل وحتى على تفكير المنظمات الدولية. فإن ما يشهده العالم - حسب رأيهم - من تدهور لنوعية الحياة، يرجع إلى النمو السكاني المرتفع؛ وأن مسألة التكاثر السكاني سوف تلغي أي تقدم يمكن أن تحققه البشرية في المستقبل، وأن العبء الأكبر في الحد من النمو السكاني سيقع على عاتق البلاد النامية التي تمثل المصدر الرئيسي لتكاثر البشر.. ومع عدم إغفالنا لأهمية تنظيم النمو السكاني ضمن استراتيجية للنهوض بنوعية الحياة والتنمية الإنسانية، وكما أن السكان يعدون طاقة إضافية تؤثر في التنمية؛ فإن التنمية تؤثر أيضاً في طبيعة النمو السكاني، كما أن العدالة الاجتماعية تمثل بعداً رئيسياً في حل المشكلة السكانية.
فإن النمو الاقتصادي قد لا تلتهمه الزيادة السكانية بقدر ما تستأثر بثماره قلة من السكان في حين تظل الأغلبية الساحقة
تعاني من الفقر والبطالة والجوع؛ وبالتالي تظل المعضلة السكانية بغير حل، فسلوكيات الاستهلاك الاستفزازي إنما تعبر عن مؤشر في هذا المقام.
إذن كيف يمكن النظر إلى المشكلة السكانية وإعادة تعريفها من منظور التنمية؛ والقيمة النوعية المضافة؟ كيف يمكن النظر إليها من مفهوم إنساني.. حينما بدأ مفهوم الإنساني يقوم على قاعدة من الرؤية المالتوسية، وعودة المالتوسية من جديد؟ وصارت واحدة من مهام هذه المالتوسية الجديدة هي بعث الجانب اللا إنساني فيها المتعلق بقضايا السكان، وهكذا تستبيح المالتوسية الجديدة ببربريتها وعدائها للبشر؛ عمليات التجويع والقتل الجماعي لسكان العالم المتخلف.
النمو الاقتصادي قد لا تلتهمه الزيادة السكانية بقدر ما تستأثر بثماره قلة من السكان في حين تظل الأغلبية الساحقة تعاني من الفقر والبطالة والجوع
إن الدولة- السلطة بإحيائها خطاباً مالتوسياً لتغطي به بعضاً من فشلها في شرعية الإنجاز؛ إنما تعبر عن زحف الدولة على القيمة الإنسانية، وعناصر تكريم الإنسان. فالإنسان لا يشكل معضلة ضمن زيادته العددية؛ إذا كان الأمر وفقاً للسياسات يُحوِّله إلى طاقة نوعية كما خلقه الله: "لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ". وضمن هذا السياق يمكن فهم مشكلة الغلاء والديون والبطالة.. وغير ذلك.
ومن جوف شماعة السكان عاير هذا الشعب بفقره "احنا فقرا قوي".. كان يحدثنا عن "مواطنة الفقر" التي تحدث حالة مستعصية من "فقر المواطنة"؛ ذلك أن ممارسات المواطن تبدأ بالحفاظ على الكيان من الهلاك، وهو يبحث عن "حقوق حد الكفاف" قبل أي حقوق للتعبير عن "حد الكفاية"، ناهيك عن أنه لا يخطر له على بال - والحال هذه - "حقوق الرفاهية".
والفقراء في مصر يتخذون أشكالاً متعددة، منها الفقر المورَّث ضمن محدودية "الملك أو المال أو الميراث"، والفقر المكتسب المتعلق بتدهور الحال والمآل بفعل محدودية الدخل المفترسة من غول الغلاء، أو بطالة مفروضة، أو غير ذلك من أمور تؤدي إلى زيادة مساحة الفقر الموروث، تضاف إليها عناصر الفقر المكتسب، ومسالك الفساد المتزايدة؛ فتزيد منافذ "الإفقار في بر مصر". والنظام الفاشل الفاشي لم يجد إلا المواطن الضعيف يتغول عليه؛ ويعايره فقرا ونسلا.
كتب "الشاعر عبد الرحمن يوسف" أن
ثورة يناير ستنتج يوما دولة يناير وستبني مواطنة يناير، "تراهم يتحدثون عن البديل وكأن حكام اليوم رجال دولة أصلا، وما هم إلا مجموعة من الفشلة"، أو عصابة اختطفت مصر ومؤسساتها.. "ثورة يناير تقدم للمصريين دولة حقيقية دولة مدنية، دولة ديمقراطية، دولة العدلة الاجتماعية، دولة الحريات التأسيسية، دولة الكرامة الإنسانية، دولة الاستقلال الوطني، دولة القانون، دولة المؤسسات، دولة العدل والمساواة والمواطنة، دولة ذات هوية جامعة، دولة التعددية، دولة الشفافية والمساءلة والمحاسبة، دولة المشاركة في المجتمع والسياسة والتنمية، دولة تستند إلى لحمة جماعتها الوطنية، دولة تمكين الشباب".
دولة يناير تُؤسس على انطلاقة ثورة يناير أهدافا ومكتسبات، ثورة يناير بشعارها الأساس "عيش كريم، حرية أساسية، كرامة إنسانية، عدالة اجتماعية". وهي في هذا الإطار تجعل من هذه المبادئ التوافقية المذكورة سابقا حزمة تستند إليها دولة الثورة، التي تستحق جهد كل أحد لإقامة كيانها، وتحقيق كامل أهدافها، بما تستحقه دولة كمصر لتحقق كرامة المواطن ومكانة الوطن.
يؤسس ذلك لمواطنة متكاملة سوية، فاعلة راشدة قوية، مواطنة العيش الكريم، مواطنة الكرامة الإنسانية، مواطنة الحرية الأساسية، مواطنة العدالة الاجتماعية، ولكن العسكر من خلال دولتهم المعسكرة الفاشية البوليسية، الفاسدة الفاشلة، وخلال متوالية فشلهم يتنقلون بين شماعات يعلقون عليها فشلهم المتكرر ومتوالية خطاياهم. فمن شماعة وفزاعة الإخوان إلى شماعة الشعب وزيادة السكان والمواطن الفائض والإنسان العبء..
إن ثورة يناير التي حملت الأمل ستؤسس يوما دولة يناير، ومواطنة يناير، حافظة للوطن مكانته وللمواطن كرامته.
twitter.com/Saif_abdelfatah