هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
الكتاب: "تطور الخطاب السياسي في تونس تجاه القضية الفلسطينية (1920- 1955)"
المؤلف: د. عبد اللطيف الحناشي
الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، قطر 2016.
تعيش المنطقة العربية على وقع تتالي خطوات التطبيع الدبلوماسي الرسمي مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، في خطوات تعكس حالة الضعف والوهن التي تعيشها هذه الأنظمة، وحاجتها إلى كفيل دولي يضمن لها البقاء..
ولقد أعاد سؤال التطبيع العربي الرسمي، الذي طال حتى كتابة هذه الأسطر أربعة عواصم عربية لا تربطها بالاحتلال أية حدود مباشرة، وهي الإمارات العربية المتحدة والبحرين والسودان وأخيرا المغرب..
وعلى الرغم من كل ما قيل عن اختلاف التطبيع المغربي عن بقية الحالات، بالنظر إلى وجود يهود مغاربة في الكيان الإسرائيلي، أو أنه استئناف لعلاقات اتصال كانت موجودة، أو أنه جرى مقابل اعتراف أمريكي تاريخي بسيادة المغرب على الصحراء.. فإن النتيجة في النهاية واحدة، وهي أن هذه الدول اعترفت بالاحتلال بما يعفيه من الجرائم التي يقترفها بحق الفلسطينيين بشكل يومي، بالرغم من كل التبريرات التي ساقتها هذه الدول من أنها لم تغير موقفها إزاء دعم الحقوق الفلسطينية.
ومع أن بعض التقارير الإعلامية الأمريكية كانت قد تحدثت عن استعداد دول عربية أخرى للتطبيع مع الاحتلال من بينها تونس، إلا أن الخارجية التونسية لم تتأخر في تأكيد زيف هذه الادعاءات، وتجديد وقوفها إلى جانب الحق الفلسطيني.. وهي مناسبة لإعادة التذكير بالموقف التونسي الرسمي والشعبي من القضية الفلسطينية، من خلال تقليب كتاب الباحث الجامعي والمؤرخ التونسي الدكتور عبد اللطيف الحناشي الصادر عام 2016 عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ـ قطر، بعنوان: "تطور الخطاب السياسي في تونس تجاه القضية الفلسطينية (1920 ـ 1955)"..
يقع الكتاب في 362 صفحة من الحجم المتوسط، ويتألف الكتاب من قسمين: أول خصصه للفترة بين عامي 1920 و 1939، وتضمّن أربعة فصول، وثانٍ خصصه للفترة بين عامي 1945 و1955، وتضمّن ثلاثة فصول.
يسعى المؤلف في هذا الكتاب "إلى المساهمة في رصد مكوّنات التفكير السياسي في تونس تجاه القضية الفلسطينية، تفكيكًا وتحليلًا، خصوصًا أنها قضية تحرّر وطني ذات مميزات خاصة شغلت التونسيين والحركة الوطنية التونسية بقدر يوازي أحيانًا انشغال التونسيين بقضيتهم الوطنية" (ص 16).
قسم الحناشي هذا البحث قسمين:
القسم الأول، خُصص للفترة بين عامي 1920 و1939، وتضمن أربعة فصول. حاول المؤلف في الفصل الأول، رصد العوامل التي ساهمت في تأخر إدراك الخطاب السياسي في تونس للقضية الفلسطينية، "منها ما كان له صلة بالواقع التونسي، ومنها ما كان نتيجة عوامل خارجية" (ص 39). ثم حاول إبراز العوامل التي ساهمت في إدراك الخطاب لتلك القضايا وحدود فهمه لها. فقد "تصدّى الخطاب السياسي في تونس للخطاب الصهيوني وفّك مرتكزاته وبين طبيعته الاستعمارية العنصرية، وعبّأ الناس على هذا الأساس لمواجهة نشاط الحركة الصهيونية السياسي والمالي في تونس" (ص 89).
أما في الفصل الثاني، اهتم المؤلف بتطور السياسة البريطانية في فلسطين والنشاط الصهيوني فيها وموقف الخطاب السياسي من تلك السياسة وإدراكه مدى خطورة النشاط الصهيوني على مستقبل فلسطين.
وبحسب الكاتب، "ينم هذا الوعي المبكر، نسبيًا، بمسألة وجود أمة عربية من ناحية، وبخطورة المشروع الصهيوني في حد ذاته ليس على الفلسطينيين فحسب، بل على العرب ككل، عن إدراك عميق بآفاق هذا المشروع وخطورته، لا سيما خطورة قيام الدولة الصهيونية في فلسطين وانعكاس ذلك على مستقبل العرب ومصيرهم" (ص 95).
أدرك الخطاب السياسي التونسي خطورة الهجرة اليهودية إلى فلسطين، واعتبر الهجرة أساسًا للمشروع الصهيوني. وبرزت في بعض الكتابات التونسية، "مدى الضرر الذي سيلحق بمصالح السكان الفلسطينيين" (ص 105). كما أدرك خطورة انتقال الأراضي الفلسطينية إلى الصهيونية، فقد "ثمن الخطاب السياسي في تونس الفتوى التي أصدرها علماء الدين في فلسطين لمقاطعة جميع من يتوسط لمصلحة الصهيونية" (ص 115). وكانت المواقف التونسية حازمة لا تقل عن صرامة الموقف الفلسطيني العام.
تناول الحناشي في الفصل الثالث، تفكيك رؤية الخطاب لمظاهر مقاومة الفلسطينيين للاحتلال البريطاني والمشروعات الصهيونية في فلسطين. وبحسبه، "تضمّن الخطاب بُعدين أساسين. الأول، يعتبر الحركة الصهيونية حزء من الاستعمار الأوروبي، في حين يصف الثاني، الحركة الوطنية الفلسطينية بأنها حركة تحرر عربي تناضل من أجل إقامة الكيان الفلسطيني الديمقراطي" (ص 123 ـ 124).
وتميز مضمون الخطاب في تعاطيه مع القضية الفلسطينية في هذه المرحلة، بفهم عميق لأبعادها المختلفة، وبالدقة في تناول مجمل القضايا ذات الصلة. و"التجانس النسبي تجاه القضايا المحورية بالتحديد، وارتقى فهم الخطاب لأبعاد القضية وخصوصياتها تدريجًا إلى درجة الإحاطة بالمسائل كلها. وربما زعمنا ـ المؤلف ـ في السياق أن المخاض الذي عاشه الخطاب السياسي في تونس بخصوص القضية الفلسطينية كان له أثر فاعل في بلورة الرأي العام المحلي وتطوره وتعميقه في شأن قضاياه الداخلية" (ص 180).
أما في الفصل الرابع، حاول المؤلف إبراز موقف الخطاب من مشروعات التسوية السياسية التي طرحتها الإدارة البريطانية والبدائل التي طرحها الخطاب كحلول عملية لتلك القضية. وبحسب الحناشي، تميز الخطاب التونسي "في الأغلب بمعالجاته الرصينة والموضوعية المسؤولة، وتميزت البدائل التي طرحها بدورها برؤية استشرافية جريئة عبرت عن فهم عميق لجذور المشكلة التي ما كان بالإمكان معالجتها إلا من خلال حل جذري يتمثل في استقلال فلسطين وفي بناء الدولة الفلسطينية المستقلة الديمقراطية العلمانية" (ص 207).
أما القسم الثاني، فخصصه لفترة بين عامي 1945 و1955، وتضمن ثلاثة فصول، تناول الفصل الخامس، رؤية الخطاب السياسي لمشروعات التسوية التي طرحت قبل قرار التقسيم وموقفه منها، ثم رؤيته لقرار الأمم المتحدة في شأن فلسطين وموقفه منها. وبحسب الحناشي، "تفاعل الخطاب السياسي في تونس مع مشروعات التسوية السياسية المطروحة العربية والدولية.
ذهب مختصون كثر في القانون الدولي إلى أن إصدار قرار التقسيم كان خارج صلاحيات الجمعية العامة، كما أنه ناقض مبدأ تقرير المصير الذي يمثل أحد أهم مبادئ الأمم المتحدة، بل إن قرار التقسيم يناقض صيغة الانتداب التي جرى بموجبها تصنيف فلسطين في فئة (أ) الأمر الذي عنى مسؤولية الدولة المنتدبة في تهيئة شعب فلسطين لنيل استقلاله
وعلى الرغم من تعدد مقارباته في شأن مشروع سوريا الكبرى وقرار التقسيم، والصواب النسبي لأغلبية التحاليل المقدمة، فإن الجانب الأكبر في تلك المقاربات أغفل أهم تلك الأبعاد، أي البعد القانوني. إذ ذهب مختصون كثر في القانون الدولي إلى أن إصدار قرار التقسيم كان خارج صلاحيات الجمعية العامة، كما أنه ناقض مبدأ تقرير المصير الذي يمثل أحد أهم مبادئ الأمم المتحدة، بل إن قرار التقسيم يناقض صيغة الانتداب التي جرى بموجبها تصنيف فلسطين في فئة (أ) الأمر الذي عنى مسؤولية الدولة المنتدبة في تهيئة شعب فلسطين لنيل استقلاله، كذلك غيّب الخطاب تحليل مسؤولية القوى الكبرى في ما وصل إليه وضع الشعب الفلسطيني، ولا سيما دورها في إصدار قرار التقسيم وتحديدًا دور الولايات المتحدة الأمريكية الذي تنامى بعد الحرب العالمية الثانية، وكان حاسمًا في تأييد قيام (الدولة الإسرائيلية) وجرّ الكثيؤر من الدول الصغرى إلى قبول القرار" (ص 240). حاول المؤلف في الفصل السادس، تحليل فهم الخطاب للحرب العربية ـ الإسرائيلية الأولى وتداعياتها، ورؤيته لأسباب الهزيمة والطرائق والبدائل التي طرحها لتجاوزها.
كتب الحناشي: "لم يستسلم الخطاب السياسي في تونس للكارثة التي حلّت بالعرب بل نلاحظ رفضه لها وطرحه بدائل عملية. إذ تناول الخطاب السياسي التونسي الأسباب العميقة التي أدت إلى الهزيمة بين عامي 1947 و1948، وأكد قضايا عدة ذات أهمية بالغة، منها غياب الممارسات الديمقراطية وسيادة أنظمة الاستبداد السياسي والتأخر الاقتصادي والاجتماعي. لكنه في المقابل لم يستسلم للهزيمة بل رفضها وطرح بدائل عملية عدة لتجاوزها كتحقيق الوحدة السياسية بشكلها الفدرالي ودعوة الأحزاب إلى تنسيق عملها بهذا الاتجاه، وفي الوقت نفسه غيّب تغيبًا واضحًا مسؤولية الفلسطينيين ودورهم في تلك الهزيمة" (ص 273 ـ 274).
خصص المؤلف الفصل السابع لبحث تطور إدراك الخطاب للقضية الفلسطينية والقضايا المرتبطة بها وبداية "غزل" الطرف الأساس في الحركة الوطنية مع الحركة الصهيونية وحدود ذلك. وذلك على وقع التحولات التي عرفها النظام العالمي الجديد ما بعد الحرب العالمية الثانية وقيام الدولة الصهيونية والدور الذي قام به على صعيد السياسة الدولية. وبحسب الحناشي، "تراجع الخطاب السياسي في تونس عن الاهتمام بالقضية الفلسطينية لأسباب ذاتية وأخرى موضوعية في مقابل تضاعف النشاط الصهيوني، ولا سيما في البلدان العربية بعد الانتصار الذي حققته الحركة. فشجعت اليهود على مغادرة أوطانهم والاستقرار في الدولة الجديدة، مما أدى إلى تضاعف التوتر بين اليهود وباقي السكان" (ص 317 ـ 318).
أخيرًا، شكل الكتاب مساهمة في إبراز بعض مكونات التفكير السياسي في تونس وموقفه من القضية الفلسطينية فيما بين (1920 ـ 1955)، وهو بالتأكيد يؤرخ لمرحلة مهمة ليس فقط في تاريخ تونس ومواجهتها للاستعمار الفرنسي، وإنما أيضا لعلاقة العالم العربي بالقضية الفلسطينية في بواكيرها الأولى.
ولا شك أن رصد هذه العلاقة بين تونس وفلسطين، سيمكن القارئ العربي من فهم المواقف الحالية للقوى السياسية التي صعدت للحكم بعد الثورات العربية التي أطاحت بنظم الحكم العربية السابقة، من القضية الفلسطينية أولا، وللتحديات التي تواجهها في مشاريع دعمها للشعب الفلسطيني تحت الاحتلال.
*كاتِب وباحِث فلسطيني