هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
الكتاب: رسالة جامع الزيتونة العلمية خلال العهد الحفصي
المؤلف: د. الصحبي بن منصور
الناشر: مجمّع الأطرش للكتاب المختص
الطبعة الأولى: 2019
عدد الصفحات: 840
مثل جامع الزيتونة الأعظم ورسالته العلمية، منذ نهاية القرن الأول هجرية، "مدرسة فقه وسلوك، تجلّت بوضوح في جملة المصادر المكتوبة والنقائش القبرية"، وهو ما بوّأه رمزية حضارية وتاريخية مهمّة طوال حقب تترى. بل إنّ بداية النّشاط العلمي بهذا الجامع كانت متقدّمة بكثير على ظهور مذاهب السنّة بإفريقيّة، وفق باحثين. وقد ساهمت هذه الرمزية الدينية البكر في تركيز الحياة الدينيّة والعلميّة والاجتماعية والسياسيّة حول "الجامع العتيق"، خاصّة في ظلّ مراوحة الجامع بين البعد الديني الروحي والبعد الثقافي لمدينة تونس وسكان شمال إفريقيا.
ولئن ازدانت المكتبة العلمية والمعمارية بدراسات قيّمة حول جامع الزيتونة بدءً بدراسات لوسيان غالفان وأحمد فكري، وصولا إلى المؤرخ عبد العزيز الدولاتلي، مرورا بدراسات محمد الباجي بن مامي وفوزي محفوظ والطاهر المعموري ومحمد حسين خضر ومحمد العزيز ابن عاشور، فإنّ الدراسات التي تناولت الجانب العلمي في العهد الحفصي تكاد تقتصر على أطروحة سعد غراب، على أهميتها. وفي هذا الإطار يتنزل كتاب "رسالة جامع الزيتونة العلمية خلال العهد الحفصي" للدكتور الصحبي بن منصور الذي يأتي تتمة ومواصلة لما بدأه سعد غراب.
يجيب الكتاب لمؤلفه الدكتور الصحبي بن منصور، حاصل على الدكتوراه في العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة والدينية: تخصص تاريخ، من كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس وكذلك على الدكتوراه في العلوم الإنسانية والاجتماعية والدّينية: تخصص حضارة إسلامية، من المعهد العالي للحضارة الإسلامية، على الإشكاليّة المركزية التالية: إلى أي مدى ساهم جامع الزيتونة في تشكل الشخصّية العلمية والهويّة الدّينية بإفريقيّة التونسيّة؟
كما يجيب الكتاب على الإشكاليات الثانوية المتفرّعة عنها، من قبيل: هل كانت لجامع الزيتونة منظومة علميّة وتعليميّة خاصّة به؟ وما علاقتها بالمنظومات الثقافيّة والدينيّة القائمة في العهد الحفصي؟ ويبحث عن طبيعة أدوار علماء الزيتونة في دوائر السلطة ومؤسسات الدّولة وداخل المجتمع الحفصي وتطوّراتها.
وبالرغم من كون جامع الزيتونة ومحيطه يمثلان إطار محليا ضيقا، انطلق منهما الدكتور الصحبي بن منصور لدراسة الحركة العلمية الحفصية، فقد توسع الكتاب ليشمل دراسة الحركة العلمية في الأوساط الاجتماعية العالمة والعوامل السياسية والاقتصادية والثقافية المؤثرة فيها.
أهمية الكتاب
يستقي بحث "رسالة جامع الزيتونة العلمية خلال العهد الحفصي" أهميته من حفره في الأدوار الحضاريّة والعلمية التي شغلها جامع الزيتونة خلال الفترة الحفصيّة و"مدى تأثيره في الحراك الفكري مغربا ومشرقا، بل إنّه بحث في الأسس التي انبنت عليها الهويّة الدّينيّة والثقافيّة الزيتونيّة، التي تشكّلت منها شخصّية المجتمع التونسي".
وبالرغم من كثرة ما كتب عن العصر الحفصي فإنّ تدوين التاريخ العلمي لجامع الزيتونة من شأنه أن "يفتح مجالا واسعا أمام الساعين إلى رسم صورة تأليفيّة تؤصّل شيوخ الزيتونة في بيئتهم الحفصيّة، وترصد العوامل التي جعلت من هذه المؤسسة المسجديّة مركزا إقليميا للعلوم وقاعدة للمذهب المالكي". وتكتسي دراسة التاريخ العلمي للجامع أهمية بالغة نظرا لغياب دراسات مختصة تناولت بالدرس التراث العلمي لهذا الجامع من زاويتين: تتعلّق أولاهما بتاريخ العلوم في رحاب الجامع، وتتصل ثانيتهما بالتأثير الحضاري لهذه المؤسسة المسجدية التعليمية في الثقافة العربية الإسلامية..
وتخلص الدراسة البحثية الأكاديمية إلى تبيان علاقة النخبة العالمة بالسلطة في جانب، وعلى تأثير السلطة الحاكمة في الحركة العلمية الزيتونية في جانب آخر.
بناء الكتاب
ينفتح كتاب "رسالة جامع الزيتونة العلمية خلال العهد الحفصي" على ثلاثة أبواب رئيسية: "مدارس العلم بجامع الزيتونة"، "مناهج العلم بجامع الزيتون" و"أدوار العلماء داخل جامع الزيتونة وخارجه". ويضم الباب الأول بدوره فصولا عدّة تبحث تاريخ جامع الزيتونة ومدارس العلم: تعريفاتها وخصائصها بجامع الزيتونة والمنظومة التعليمية بجامع الزيتونة والمنظومات الموازية بين التنافس والتكامل وطبيعة العلاقات داخل المنظومة الزيتونية ومع الدولة الحفصية. وقد نجح الكاتب في تكوين صورة دقيقة حول منزلة الجامع في العصر الحفصي ومظاهر عناية الحكام الحفصيين.
وفي الباب الثاني المخصص لمناهج العلم بجامع الزيتونة، تم التركيز على مناهج العلم من خلال ثلاثة فصول هي: الطرق المعتمدة في تحصيل العلوم وبثها، ومناهج التأليف المعتمدة من قبل علماء الزيتونة ومدى تأثير العامل المذهبي في مناهج تدريس العلوم بجامع الزيتونة.
واعتنى المؤلف ضمن الباب الثالث للكتاب بدراسة أدوار العلماء الحفصيين داخل جامع الزيتونة وخارجها. حيث تناول بالدرس والتمحيص أدوارهم الرئيسية المتمثلة في الأدوار الشعائرية من إمامة وخطابة وكذلك في وظيفة التعليم. بينما استعرض في الفصل الثاني من هذا الباب الأدوار الرديفة من إفتاء وقضاء ومن دور مراسمي. ثم أردف الكاتب بفصل ثالث أتى على دراسة أسباب تراجع الحركة العلمية بمدينة تونس عامة وبجامع الزيتونة خاصّة وانحسار مظاهرها خلال نهاية العهد الحفصي.
ارتباط ازدهار الحركة العلميّة بفترات القوة التي شهدتها بلاد إفريقية
يؤكد الكاتب على ارتباط الحركة العلمية بجامع الزيتونة وازدهارها بفترة قوة سلاطين بني حفص. لأنه كلما ساد الحكام الأقوياء انتعش الجانبان الاقتصادي والاجتماعي. ويعتبر علماء الزيتونة جزءْ من الفئة الاجتماعية المحظوظة التي امتلكت الثروة وحازت السلطة. ويمكن مطالعة أحوال الطبقات الزيتونية وأحداثهم ومواقفهم وأقوالهم في المصادر التي اعتنت بالتاريخ الرسمي للدولة الحفصيّة، وبأخبار المؤسسة الدينية، ولا شك أنّ هذه الشرائح العالمة قد كتبت تاريخها بنفسها.
وفي كل الحالات فإنّ الحاجة للبحث في تراجم الأعلام مهم لفهم المجتمع الحفصي، بالنظر إلى أنّه لم يعد ممكنا فهم ما يجري في الشرائح السفلى بالدولة الحفصية إلا من منظار علماء الزيتونة، وعير ما يصوغونه من فتاوى تصوّر مجتمعهم على حقيقته، وتقدم في الآن نفسه حلولا دينية ودنيوية لواقع المجتمع الحفصي ومتطلباته.
جامع الزيتونة مدرسة فقه وسلوك
يتضح من خلال هذا الكتاب أنّ جامع الزيتونة قد مثل مدرسة فقه وسلوك، حيث ازدهر في رحابه الفقه، واستغرق اهتمام المشتغلين بالعلم ليس في مدينة تونس فحسب وإنّما أيضا في كامل أرجاء إفريقيّة. ولم يتجلّ هذا الواقع فقط في ظهور فئة واسعة من الفقهاء خلال العهد الحفصي، بل تجلّى كذلك في المصادر المكتوبة وفي النقائش القبرية. كما انتشر التنادي بلقب الفقيه وصار الفقهاء في هذا العهد الحفصي يتحوزون طابعا من فضّ يعرف بطابع الفقهاء.
ويشير الصحبي بن منصور إلى أنه لئن تحوّل الفقه إلى رياضة فقهية في أيام ابن عرفة وإلى جهد جماعي بعد أن كان جهدا فرديّا، فإنه اتخذ في زمان كبار تلاميذه طابعا عمليا انبنى على نقل الاختيارات والترجيحات المستخرجة من الأقوال المتروكة والمرجوح عليها من الكتب ومن حلقات جامع الزيتونة إلى المحاكم عن طريق الأحكام القضائية، وإلى الواقع اليومي للناس من خلال تقديم حلول لمشاكل المجتمع الحفصي بواسطة الفتاوى والاستشارات السلطانيّة.
ويخلص ابن منصور أيضا إلى أن جامع الزيتونة أصبح في العهد الحفصي مدرسة سلوك حيث حفلت مصادر البحث بوصف علمائه بالقدوة وبالتأهل لأن يكونوا أمثلة صالحة وأن ينتفع بهم علما وأخلاقا، وأن يتأدّب بهم الخواص والعوام على وجه سواء.
تطور العلم بجامع الزيتونة واكتماله في العهد الحفصي
ازدهر فقه الدليل في العهد الحفصي، حتى لا يقال إن فقهاء الزيتونة لا يحتكمون إلى الحجة والبرهان وإنّما يحكمون بقربهم من السلاطين. وبالرغم من ذلك فقد توطدت العلاقة بين الفقهاء والسلطان الحفصي وأصبح الجامع يكتسي طابعا رسميا تأكد من خلال إجراء الرواتب على شيوخه وطلبتهم وتفرّدهم بلباس مخصوص بالمنتمين إليه.
وقد مثل العهد الحفصي مرحلة تطور واكتمال العلم بجامع الزيتونة بعد تنظيم الدروس فيه، وتحويله إلى مؤسسة تعليم رسمية يتقاضى فيها الشيوخ المدرّسون رواتب شهرية قارة. وقد التقت طرق التعليم لدى المتقدمين والمتأخرين من علماء المشرق والمغرب في جامع الزيتونة. ويشير ابن منصور إلى أن هذا الالتقاء التقطه ابن خلدون وعبر عنه بأسلوب تنظيري خلال دراسته لأوضاع التعليم في العالم العربي، مركزا في أثناء ذلك على قلب الرحى في التعليم العربي الإسلامي وهي "المناهج" التي كان عبر عنها ب،"اصطلاحات التعليم"، وفق ما ورد في كتابه "المقدّمة". موضحا أنّ "اختلاف الاصطلاحات" في التعليم يدل على أنّ "تعليم العلم صناعة".
وقد أطلق ابن خلدون على المناهج تسمية "حسن الملكات في التعليم" وعرّفها على أنّها ما يكسب المرء "عقلا جديدا يستعد به لقبول صناعة أخرى ويتهيأ بها العقل لسرعة الإدراك".
النخب الزيتونية وتحديد التوجه العقدي
يعاين الكاتب الصحبي بن منصور ما اتسمت به الشخصية الزيتونية من خصائص صارت مميزة لها، على غرار الثقة في إنتاجها الفكري، والاتصاف بالهيبة وبقوة الشخصية والتواضع والتفاني في خدمة العلم والناس، والإحاطة بالطلبة والحرص على أن يكونوا أئمّة في بلدانهم وعلى تشغيلهم في الوظائف الدينية والقضائية والتعليمية.
هكذا صار جامع الزيتونة هو المسيطر على المدارس الحفصيّة، وليست السلطة. وبفضل ما امتلكته من أدوات تأثير معرفي فقد اضطلعت النخب الزيتونية منذ بدايات العهد الحفصي بدور حاسم في نشر الثقافة الشرعية وفي تحديد التوجه العقدي ورسم النسق الفكري، وأنها لم تقف عند حدود ميدانها العلمي والديني بل إنها مارست أنشطة إدارية وتعليمية وقضائية وحتى ديبلوماسية.