هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
الكتاب: "مسالك التنمية المركبة: الأنموذج الياباني والمستقبل العربي"
الكاتب: الدكتور ناصر يوسف
الناشر: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الطبعة الأولى 2019
عدد الصفحات: 312
منذ أن طرح شكيب أرسلان سؤاله النهضوي "لماذا تقدم الغرب وتأخر المسلمون؟"، والعالم العربي، يئن تحت وطأة السؤال نفسه، سؤال تراجع التنمية، بل سؤال الارتباك في توسل واستلهام نموذج تنموي قادر على إخراج العالم العربي أو أحد دوله من التخلف.
والمثير أن النظر لم يتوقف في دراسة النماذج التنموية التي سلكتها عدد من التجارب، وكيف اجتهدت في بناء تركيبها الخاص، الذي ساعدها على تحقيق الصعود والارتقاء التنموي، هذا في الوقت الذي كانت فيه بعض الدول الصاعدة تعيش الوضعية نفسها، والشروط ذاتها التي عرفها العالم العربي، فنجحت في الوقت الذي ظل فيه العالم العربي يراوح المكان، ويضيف إلى لائحة النماذج الملهمة للنهضة، دولا أخرى، كانت تتقاسم معها من قبل وضعية التخلف وشروط التبعية.
من هذه النماذج، نخص نموذج اليابان، وذلك لاعتبارين اثنين، الأول هو ما سبق ذكره من تشابه الشروط التي انطلق منها لتعبئة نموذج التنموي مع شروط العالم العربي. والثاني، لأن هذا النموذج، لم يتنكر لمعادلته الثقافية، بل جعلها محورا أساسيا من التركيب الذي أسس له في نموذج التنموي.
لهذين الاعتبارين، تكون دراسة النموذج التنموي الياباني أكثر فائدة من دراسة النماذج الغربية، فالنموذج الياباني قائم على مفهوم الاتصال والامتداد، أي أن النموذج التنموي الياباني، بنى ركائزه من غير تنكر لثقافته وخلفيته التاريخية، بينما النماذج الغربية، قائمة على فكرة القطيعة مع الدين ومع التقليد، وهو ما يبرر الاشتغال أكثر بدراسة النموذج التنموي الياباني من دراسة النماذج الأخرى.
والحقيقة أن هذا الموضوع، كتب فيه كثيرون، حاولوا الانطلاق من هذين الاعتبارين، في دراستهم للنموذج التنموي الياباني، وما إذا كان من الممكن استلهام بعض ركائزه أو مسلكياته التنموية في بناء النموذج التنموي العربي الإسلامي، لكن، كتاب الدكتور ناصر يوسف، "مسالك التنمية المركبة: الأنموذج الياباني والمستقبل العربي"، لا يقل عنها أهمية، كونه حاول التركيز على التركيب التنموي، لا على النموذج بكل تفاصيله، أي حاول تفكيك مقومات هذا النموذج، والتركيز على الركائز النسقية التي بنت هذا النموذج، وأسست له.
التحولات الصانعة للنموذج التنموي الياباني
يبني الكاتب أطروحته في دراسة النموذج التنموي الياباني على ثلاث ركائز: (الامبراطور الرمز، والقيادة الحكيمة، والشعب الطامح) تتأسس في بنية نسقية واحدة، تستمدها من الفكرة المركبة بتعبير مالك بن نبي، أو من القيم التاريخية الفاعلة، التي تمتح من الماضي، المؤسس للوعي الياباني الجديد، وتصنع الميلاد الجديد للإنسان الياباني.
لكن هذه القيم التاريخية الفاعلة، المجسدة في التعاليم الكونفوسيوشية، لم تكن مجرد عملية استنساخ للنموذج التقليدي، الذي كان يثبت سلطة الإقطاعي ويبرر التبعية له بطريقة غير إنسانية، ربما من أجل تأمين استقرار سياسي واجتماعي موهوم، وإنما كانت عملية تجديدية، تضمنت مراجعة عميقة لهذه العقيدة، بما جعل الإقطاعي شريكا للآخرين، لا مسيطرا عليهم مستغلا لهم، أي تم إعادة قراءة الكونفوسيوشية، باستعادة أصولها وروحها ومقاصدها، وبشكل خاص، مقصدها الكلي، في الولاء والطاعة والعمل والتعاون وبذل الجهد من أجل عمران اليابان ونهضته وتنميته.
يجادل الباحث في علاقة هذه القيم بالدين، وهل لليابان دين، أم لا دين لها، لكنه يؤول بعد ذلك كله، إلى أن سر نجاح النموذج التنموي الياباني، هي هذه القيم، سواء كانت مستندة في الأصل إلى الدين، إن كانت هي بنفسها دينا يجمع اليابانيين، ويحفزهم على العمل وبذل الجهد، ويوحدهم في مواجهة الصعوبات، ويحفزهم على الخروج من الأزمات، ويقوي مناعتهم في مواجهة التحديات،
لقد كان هذا هو محور عمل أب النهضة اليابانية "فوكوزاوا يوكيتشي"، ثم جاء الامبراطور ميجي واستكمل المهمة، وأعاد الاعتبار للقيم الثقافية اليابانية الحاملة على التعاون وبذل الجهد من أجل نهضة الأمة اليابانية، ولم تكن الحرب العالمية الثانية لتدمر أمل اليابان في تأمين نموذجه التنموي، رغم القنبلة الذرية التي أتت على مدينة بأكملها هي هيروشيما.
لكن، النقلة النوعية التي حدثت في هذا النموذج، وساعدته على الإقلاع مرة أخرى، هو تنازل الامبراطور هيروهيتو عن ألوهتيه، وتحوله إلى إنسان عادي، يسهم بدوره في ترصيص البنيان الإنمائي، إذ تم قراءة هذا المشهد، بشكل مركزي في المخيال الياباني، كما ولو كان الإله ينزل بنفسه، ليشارك النخب والعامة في البناء، ويحفزهم على التنمية، وليتم القطع مع صورة الامبراطور السلطوي، الذي يقمع النخة والعامة، ويثبت سلطة القاهرين.
الركائز الثلاث للنموذج التنموي
بنى الباحث أطروحته في دراسة النموذج التنموي الياباني، من استقرائه للمشهد الإنمائي الياباني بعد إصلاحات ميجي، لاسيما بعد النجاحات التي حققتها اليابان بعد الحرب العالمية الثانية، إذ حاول أن يتوقف على البنية النسقية للنموذج التنموي الياباني، والتي تقوم على اشتغال ثلاث ركائز، بشكل وظيفي تكاملي وتعاوني. وهي الامبراطور والقيادة والشعب (الثلاثية)، بتثوير وتوجيه من قبل التعاليم والقيم الكونفوسيوشية في قراءتها الجديدة، إذ يقوم الامبراطور بوصفه رمزا ميثولوجيا وتاريخيا بوظيفة المحفز، وتقوم القيادة بدور المنسق بين الامبراطور والشعب، بحيث تمنع حصول أي حواجز بينهما، تحول دون أن يكون الأداء موجها في الاتجاه الصحيح، فتقوم بمهمة النقل الأمين لتوجيهات الامبراطور، حتى يضطلع الشعب بدوره في ترجمة هذه التوجيهات بطريقة مثالية في شكل إنجازات مادية على الأرض.
ولا يتحقق بنيان هذا النموذج الإنمائي، إلا بوجود صفة ضرورية في الشعب، وهي الطموح، فالشعب الطامح هو الرقم الحاسم، لأنه يقوم بدور الإنجاز، أي ينقل معادلة التنمية من بعدها التوجيهي الثقافي، إلى واقعها التاريخي المتحقق في الأرض. فالطاقة والمقدرة والجهد مختزنة في الشعب وعمقه، والرمز والقيادة، ما هما إلا الجزء الآخر من هذه الطاقة، إذ تستمد فاعليتها وجودها من الكل.
وهكذا يتأسس النموذج التنموي الياباني على القيم التاريخية الفاعلة، وهي ما يسميه الباحث ببنية التنمية المركبة، وتشكل الركائز الثلاثة نسقها الاشتغالي الذي ينقلها إلى واقع متحقق، وذلك بحضور ثلاثة أبعاد أساسية: التحفيز والتوجيه (الرمز) والتنسيق ونقل التوجيهات وترجمتها في شكل خطط(القيادة) والإنجاز المادي على الأرض (الشعب).
القيم التاريخية.. دين اليابان الجديد
إذا كانت القيم تستمد في الغالب من الدين، فإن اليابان التي لا دين لها، تبني دينها من قيمها التاريخية، وتؤسس عليه نهضتها، وتستند إلى هذه القيم، ليس فقط في عملية البناء، أي بناء نموذجها التنموي، ولكن أيضا في عملية الصمود والاستجابة للتحدي. فقد جربت اليابان الامتحان مرتين بعد العصر الميجي، وكان أسوأ هذا التحدي الضربة النووية الموجعة التي تلقتها، كما أن تحدي الاكتساح الغربي للنماذج التنموية، لم يكن أقل سوءا، ومع ذلك واجهت اليابان التحديين بالقيم ذاتها، أي القيم التاريخية التي احتمت بها، واستندت إليها للخروج من العزلة في التحدي الأول، والصمود في وجه الاكتساح الغربي وتجاوزه في التحدي الثاني، فهذه القيم تشكل حسب الباحث زر النهضة في اليابان، وليس مجرد سر يكتشفه الدارسون عندما ملاحظتهم لنجاح النموذج التنموي الياباني.
يجادل الباحث في علاقة هذه القيم بالدين، وهل لليابان دين، أم لا دين لها، لكنه يؤول بعد ذلك كله، إلى أن سر نجاح النموذج التنموي الياباني، هي هذه القيم، سواء كانت مستندة في الأصل إلى الدين، إن كانت هي بنفسها دينا يجمع اليابانيين، ويحفزهم على العمل وبذل الجهد، ويوحدهم في مواجهة الصعوبات، ويحفزهم على الخروج من الأزمات، ويقوي مناعتهم في مواجهة التحديات، ويؤهلهم لتجاوزها، ويصهر قوى الشعب كلها، ويوجهه في اتجاه واحد، ويخلق شروط العمل المنسق بين الركائز الثلاثة للنموذج التنموي الياباني.
الكتاب وخلفية مالك بن نبي
واضح من خلال الكتاب الحضور الكثيف للبناء النظري الذي أرساه مالك بن نبي، سواء من خلال الحديث عن مكونات الحضارة الثلاثة، أو عن الفكرة الدينية المركبة، أو عن محورية الإنسان في العملية التنموية، أو عن حضور الثقافة بأبعادها الأربعة (المبدأ الأخلاقي، والمنطق العملي، والذوق الجمالي والصناعة)، كما تحضر ثنائية المنشِئ والمنشَأ، ودور الثقافة في التوجيه، والفرق بين بناء الحضارة، وتكديس منتجات الحضارة وغيرها من مفاهيم مالك بن نبي المختلفة، فالباحث يستعمل كل مفردات البناء البناوي (مالك بن نبي) سواء على مستوى المفاهيم أو على مستوى المقتضيات الإجرائية.
وهكذا اشتغل الباحث في القسم الأول النظري على بسط الدراسات السابقة للموضوع، وتوقف على مفهوم التنمية المستدامة، ومفهوم التونمة، والتركيب والتنمية المركبة (الفصل الأول)، وحاول ضمن هذا القسم أيضا، تفكيك مفهوم البنيان المرصوص في النموذج التنموي الياباني: أي السلطة والنخبة والعامة (لفصل الثاني)، فضلا عن بسطه لمفهوم مسالك التنمية المركبة ومؤشراتها (الفصل الثالث). أما في محور الواقع أي القسم الثاني من الكتاب، فقد عمد إلى تقديم تحليل سيميائي تربيعي للتنمية المركبة في اليابان (الفصل الرابع)، ووظف في الفصل الخامس ثلاثية مالم بن نبي (الإنسان، التراب، الوقت) لتحليل عناصر التنمية اليابانية المركبة من خلال (الدولة والإنسان والأرض والتراب)، إذ توقف على دينامية التنوير الامبراطوري (التنمية المتحضرة) وأهمية الدولة في عملية التركيب الإنمائي الحضاري، ليختم في الأخير بالدروس المستفادة من المعادلة التنموية اليابانبة).
ما يستفاد من التجربة اليابانية
يتوقف الباحث طويلا على نموذج مالك بن نبي في شروط الحضارة، ويعتبر أن خطاطته هي التعبير الأقوى على الدروس المستفادة من تجربة اليابان، لاسيما ما يرتبط بدور الفكرة المركبة لعوامل الحضارة، أي الإنسان والتراب والزمن، وأهمية الفكرة الدينية في إقامة التركيب الحضاري بين هذه العناصر، ويعتبر أن الدرس الذي ينبغي استخلاصه عربيا من النموذج التنموي الياباني، هو مركزية القيم في صناعة النموذج، وأن البدء ينبغي أن يكون من إعادة تقييم الإنسان، واحترامه وحفزه وإعادة الكرامة إليه، وأن المفتاح بيد السلطة السياسية، فهي الوحيدة القادرة على أن تحل مشكلة احترام الإنسان، وأنه حالما حلت هذه المشكلة، تكون المشكلة الإنسانية أسهل.
لا يشعر الباحث حين يضع هذه الخلاصة أنه ينزاح عن فلسفة مالك بن نبي، وهو الذي بنى أطروحته كاملة بناء على خطاطته، فالمفتاح ليس بيد السلطة في خطاطة مالك بن نبي، وإنما إعادة تقييم الإنسان، تبدأ من الإنسان، وأن السلطة كما بين مالك بن نبي ذلك في وجهة نظره حول مفهوم الديمقراطية، تصير آلية تابعة للمحيط الاجتماعي، وأن الاستبداد لا يكون له أي مشروعية في ظل القطع مع نفسية الاستبعاد، وأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لم يكن ليكون عادلا إلا في ظل مجتمع تقوم امرأة في وجهه، وهو يخطب خطبة الجمعة يطلب تحديد مهور النسوة بعد ما رأى تسارع الأسر في المغالاة في المهور وخاف على النسوة من العنوسة.