كتب

كيف يفهم الغربيون تعدد الفرق الإسلامية واختلافاتها؟ كتاب يجيب

إن ما يجمع المسلمين ما إن يتمّ الدخول في الإسلام شيء واحد فحسب؛ هو النطق بالشهادتين. أما بعد دخوله، ففي الأمر سعة..
إن ما يجمع المسلمين ما إن يتمّ الدخول في الإسلام شيء واحد فحسب؛ هو النطق بالشهادتين. أما بعد دخوله، ففي الأمر سعة..
الكتاب: "الفرق في الإسلام: مدخل إلى دراسة الدين الإسلامي"
الكاتب: هنري لاوست
ترجمة: راضي علوش
الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ـ الدوحة 2024

يعدّ المستشرق الفرنسي هنري لاوست (Henri Laoust) أحد أبرز المؤرخين الغربيين المتخصصين في الدراسات الإسلامية، وخصوصا في العقائد والفرق الإسلامية. ولد لاوست في عام 1905 وتوفي في عام 1983، وقد عرف بأعماله التي تناولت الفِرق الإسلامية، مثل الشيعة، والمعتزلة، والإباضية، بالإضافة إلى دراسات حول الشخصيات الإسلامية البارزة مثل ابن تيمية. ركز في أعماله على فهم وتفسير الخلافات العقائدية داخل الإسلام وتطوّر الفكر الإسلامي.

ويعد كتاب "الفرق الإسلامية: مدخل إلى دراسة الدين الإسلامي"، الصادر عن  المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ضمن سلسلة "ترجمان"، من أبرز مؤلفات لاوست، وهو دراسة تحليلية معمّقة للفرق الإسلامية المتنوعة ونشأتها وتطورها عبر التاريخ. في هذا الكتاب، استعرض لاوست الظروف التاريخية والاجتماعية التي أدت إلى ظهور الفرق مثل الخوارج، والشيعة، والمعتزلة، والأشاعرة، والمرجئة، وغيرها. اعتمد في دراسته على النصوص الإسلامية الأصلية، وكذلك على أعمال مؤرخين مسلمين قدامى.

يتميز الكتاب بأسلوبه الأكاديمي التحليلي؛ إذ يحرص لاوست على عرض الأفكار والنقاشات بين الفرق بشكل حيادي، مع التركيز على الدوافع الفكرية واللاهوتية التي قادت إلى نشوء هذه الفرق، يسعى من خلال ذلك إلى توضيح مدى تنوع الفكر الإسلامي وثرائه، كما أنه يكشف عن كيفية تطور المدارس الفكرية الإسلامية بمرور الوقت.

إن ما يجمع المسلمين ما إن يتمّ الدخول في الإسلام شيء واحد فحسب؛ هو النطق بالشهادتين. أما بعد دخوله، ففي الأمر سعة لتعددية مذهلة، تُنتج فرقا وشِيَعا ومذاهب ومدارس تتصارع فكريّا وعقليّا واجتهاديّا.
مساهمات لاوست في دراسة الفرق الإسلامية، جاءت كجزء من مساعيه لفهم أعمق للثقافة الإسلامية وأصولها الفكرية. وقد كان كتابه "الفرق الإسلامية" مرجعا مهمّا للباحثين في تاريخ الأديان وعلم اللاهوت الإسلامي، حيث يعدّ من المراجع الأساسية التي تلقي الضوء على التنوع داخل الإسلام من منظور علمي، بعيدا عن الأحكام المسبقة.

لقد ساهم كتابه هذا، إلى جانب أعماله الأخرى، في تزويد الغرب بمعلومات دقيقة عن الفكر الإسلامي، وأصبح جزءا من المناهج الدراسية في الجامعات الغربية التي تعنى بالدراسات الإسلامية.

وقد قدم المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات تعريفا موجزا بالكتاب نورد هنا جزءا منه.

مستشرق يقرِّب الغرب من الإسلام

ألَّف لاوست كتابه الفرق في الإسلام: مدخل إلى دراسة الدين الإسلاميLes schismes dans l'Islam: Introduction à une étude de la religion musulmane بطلب من دار "بايّو" للنشر Payot، التي أصدرت منه بالفرنسية طبعتين (الأولى عام 1965، والثانية عام 1983)، لكنه لم يستجب لذلك إلّا بعد تردّد وإحجام مبعثهما ـ كما يقول ـ أنّ الأمر مشروعٌ فائق الجرأة، وعندما قرر خوضه "بالأمانة تجاه نفسي" كما يقول في مقدمة كتابه، وجّهه إلى الطلاب الغربيين عموما، والفرنسيين خصوصا، لما يفتقرون إليه من مؤلفات تعمّق معرفتهم بالدين الإسلامي؛ وذلك انطلاقا من إيمانه بمسؤولية الأوروبيين الأخلاقية عن إرساء علاقات تفاهم متبادل مع العالم الثالث "الجار" والدين الأهم فيه، كما أراد له أن يكون مؤلَّفا يقدّم تعريفا متكاملا للدين الإسلامي، في تحقُّقِه التاريخي المتمثلِ في الفرق والطوائف الإسلامية المختلفة، وفهْمِ كلٍّ منها للإسلام في سياق زمانها، مع الإشارة إلى أنّ في هذا الفهم ما‎ ‎هو مشترك بين الطوائف جميعها، وفيه ‏ما‎ ‎يميز بعضها من بعضها الآخر تمييزا قد يتسع أو يضيق، وهو ما سماه "تعددية في إطار الوحدة".

منهج لاوست في كتاب "الفرق"

قسّم لاوست كتابه بحسب نهجين: الأول طولي تاريخي، من الزمان‎ الأقدم إلى ما‎ ‎يليه، ابتداء من عهد الصحابة ‏وانتهاء بالعصر الحديث. والثاني أفقي جغرافي، وفيه يرصد فِرَقَ الزمن ‏الواحد وأماكنها المتنوعة (من الهند إلى المغرب)، ويسجل ‏اختلافها وأهم أعلامِها ومقولاتِها وآرائِها بإيجاز غير مخلّ. وقد نأى بنفسه عن جعل ‏أي طائفة معيارا لتاريخ الفرق الأخرى، فكان يسرد المقولات ‏الزمانية والمكانية لكل فرقة‎‎، ‏وعلاقاتها بالفرق الأخرى، ويعرّف كلا منها ‏بما‎ ‎تخالف به غيرها، مركّزا جهده على الفرق الكلامية الكبرى، ثم الفرق ذات العلاقة بالفلسفة ‏والتصوف.‏

إنّ كتاب الفرق ‎بمنزلة عرض تاريخي بانورامي، أشبه بخريطة ذهنية شاملة ‏لسيرورة المدارس الكلامية والفلسفية والصوفية في الإسلام، من دون التعمق في ‏تحليل أقاويل أي فرقة على نحو تفصيلي، بل إنّ المؤلف يذكر ‏ما‎ ‎يرى أنه الأهم من أقوالها في ظل الأوضاع ‏السياسية التي عاشتها، رابطا الأشخاص بالأفكار والأحداث بطريقة مميّزة، من شأنها أن تسهّل البحث للدارسين؛ طلابا مبتدئين كانوا، أم قرّاء مهتمين، أم علماء ‏متخصصين، فهو لم يَدَع ـ وإن تجنب الإفاضة في كلامه ـ الإشارات واللفتات التحليلية العابرة.‏

كتاب "تلخيص الفرق": ما له وما عليه

يؤاخذ كتاب الفرق في الإسلام بمحدودية مراجعه، ‏واستقائه من ‏مراجع وسيطة وعامة بدلا ‎من المصادر المتعلّقة بالموضوع البحثيّ مباشرة‎؛ مثل إحالته على دائرة المعارف الإسلامية Encyclopédie de l'Islâm، ومدخل إلى تاريخ الشرق الإسلامي Introduction à l'histoire de l'Orient Musulman لكلود كاهين Claude Cahen، والفلسفة واللاهوت الإسلاميان Islamic Philosophy and Theology لمونتغومري وات W. Montgomery Watt، وتاريخ الفلسفة الإسلامية History of Islamic Philosophy لهنري كوربان Henry Corbin، ومدخل إلى الشريعة الإسلامية An Introduction to Islamic Law لجوزيف شاخت Joseph Schacht. وكلها، كما هو واضح، ليست مصادر في الفرق الإسلامية، بل في الفلسفة والتاريخ، وكذا إحالته على الكتب الوسيطة للمؤلف ذاته، من دون العودة إلى المصادر الأصلية، مع عدم إغفال المرحلة التي ‏أخرجه فيها؛ فالعديد من المصادر الأصلية لم تكن محققة ومنشورة في ‏زمان إصدار الكتاب.

ومع هذا، فالكتاب يزخر بفوائدَ؛ من حيث العرض التاريخي البانورامي الموجز في آن واحد. ومن فوائده عرض مسائل يمكن أن يتناولها القارئ بتعمق إذا رغب في ذلك، وهو نوع من الكتابات ما زلنا نحتاج إلى التمكن منه بعقول وأيد ونظرات عربية، بدلا من ‏البحث النصوصي المحض، والمتحيز في كثير من الأحيان.‏

فحوى الكتاب والهدف من تأليفه

إن ما يجمع المسلمين ما إن يتمّ الدخول في الإسلام شيء واحد فحسب؛ هو النطق بالشهادتين. أما بعد دخوله، ففي الأمر سعة لتعددية مذهلة، تُنتج فرقا وشِيَعا ومذاهب ومدارس تتصارع فكريّا وعقليّا واجتهاديّا، على الرغم من أنها تتبادل الاتهامات الغليظة أحيانا. لقد زالت فرق إسلامية كثيرة عبر الزمن، لكنّ بعضها حتى أيامنا هذه بحيوية لافتة وتصميم راسخ على الديمومة والاستمرار، مع التسلّح بما ورثته عن سلفها من مخزون إيماني وأفكار واعتقادي. فكيف السبيل إلى توضيح الملابسات الدينية والتاريخية في هذه الظاهرة؟ أيكون في الانطلاق من مذهب معيّن للحكم على بقية المذاهب، بمعنى جَعْلِه "أرثوذكسية" تكون هي مصدر الحكم، أم في الانكباب على معرفة أعمق تفتقر إلى المستندات والوثائق؟

لئن كانت حقبة الخلافتَين الراشدة والأموية مهمة في ولادة الانشقاقات الأولى وتشكُّل البناء التركيبي للإسلام نفسه، فقد فتحت أدبيات العصر العباسي باب الانشقاقات الإسلامية، وكرّست بقاءَها واستمرارها على مختلف الصُّعُد المذهبية العقدية؛ مع الشيعة وكتّاب الحقبة البويهية (الشيخ المفيد، وأبو جعفر الطوسي، وغيرهما)، ومع السنّة (أبو حامد الغزالي، وفخر الدين الرازي)، ومع التصوف (الجنيد، وأبو طالب المكي، وابن عربي)، ومع المعتزلة (القاضي عبد الجبار، وابن أبي الحديد).
لقد ظهرت جميع الفرق والمذاهب والمدارس خلال تاريخ طويل مشحون بالأحداث السياسية أو الاجتماعية: السنّة، والخوارج، والشيعة، والمعتزلة، والفلاسفة، والمتصوفة، وغيرها. ومن خلال اتّباع ترتيب زمني، هدف الكتاب إلى إبراز العلاقات المتبادلة بين هذه الحركات التي عارض بعضُها بعضها الآخر، على الرغم من انتمائها كلّها إلى المنظومة الدينية ذاتها. ولئن كانت حقبة الخلافتَين الراشدة والأموية مهمة في ولادة الانشقاقات الأولى وتشكُّل البناء التركيبي للإسلام نفسه، فقد فتحت أدبيات العصر العباسي باب الانشقاقات الإسلامية، وكرّست بقاءَها واستمرارها على مختلف الصُّعُد المذهبية العقدية؛ مع الشيعة وكتّاب الحقبة البويهية (الشيخ المفيد، وأبو جعفر الطوسي، وغيرهما)، ومع السنّة (أبو حامد الغزالي، وفخر الدين الرازي)، ومع التصوف (الجنيد، وأبو طالب المكي، وابن عربي)، ومع المعتزلة (القاضي عبد الجبار، وابن أبي الحديد).

يستبعد الكتاب طريقة البحث هذه ويركّز على الخلافة الراشدة، من خلال إبراز عصر ازدهار عقائدي مكثف، ارتبط لاحقا بالهلينية في زمن الأمويين وطلائع العباسيين، ويتتبَّع ذلك منذ ترسيخ مذهب السنّة في زمن المتوكل، إلى ما أحدثته الحملة الفرنسية من أثر نهضوي غربي، وولادة كتّاب ومؤلفين من الطراز الأول في العصر المملوكي. أما التاريخ العثماني، فهو في نظر المؤلّف لا يزال يثقل عالمنا الحاضر بشدة، على الرغم من أنه لم يُدرَس جيّدا، ثمّ إنّ النهضة الشيعية الأهمّ، التي ربط الصفويون اسمَهم بها، متعلّقة على نحو وثيق بدراسة الوقائع المعاصرة. وأخيرا، شهد القرن التاسع عشر أشكالا من الإصلاح الديني والتحديث، أثّرَا ـ ولا يزالان يؤثّران ـ في المجتمعات الإسلامية.

يختتم المؤلّف مقدمة كتابه بإبداء رأيه المتمثّل في أنّ الإسلام دين لن يستنفد رسالته تحت أي ظروف ورغم أيّ صعوبات، ويرى أنه من المهم أن يسارع الناس إلى التعرّف إلى ما ينقله إلى أتباعه من تراث وعادات وتقاليد وتطلعات.
التعليقات (0)
الأكثر قراءة اليوم