هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
ليس سراً أن الحكومات التركية تفضل تقليدياً الإدارات الأمريكية الجمهورية على الديمقراطية، ولا أن أنقرة كانت تفضل رئاسة ثانية لترامب، ليس فقط تجنباً لإدارة ديمقراطية، ولكن أيضاً لأسباب تتعلق مباشرة ببايدن. ذلك أن مواقف الرجل وتصريحاته تجاوزت فكرة دعم اليونان في القضية القبرصية مثلاً والعلاقات الطيبة مع اللوبي اليوناني في بلاده، لتصل للدعوة الصريحة لدعم المعارضة التركية للإطاحة بأردوغان.
لكل ذلك، لم تبدُ أنقرة أنها على عجلة من أمرها لتهنئ الرجل بمناسبة فوزه، بل إن الناطق باسم حزب العدالة والتنمية عمر تشيليك، حين سئل عن تأخر بلاده في تقديم التهنئة لبايدن أسوة ببعض الدول الأخرى، قال إن الحكومة تنتظر "النتائج الرسمية النهائية" لتقديم التهنئة، وإن ذلك من "احترام تركيا للديمقراطية وللشعب الأمريكي".
بعد ذلك بيومين فقط، وقبل النتائج الرسمية بطبيعة الحال، أرسل أردوغان رسالة تهنئة لبايدن على فوزه، وقرنها برسالة أخرى لترامب تشكره على تعاونه في الفترة السابقة. قد يُظنُّ أن أنقرة كانت تضع احتمالاً ولو ضئيلاً لتغير نتيجة الانتخابات في نهاية المطاف، لكن الأرجح أنها تعمدت ألا تبدو متحمسة أو لاهثة خلف تهنئة سريعة، وهي بالتأكيد أرادت إرسال رسالة تحفظ ضمنية على تصريحات الرجل المذكورة.
ورغم كل ما سبق، لم تبد أنقرة أي إشارة سلبية تجاه بايدن أو النتيجة، بل شددت تصريحات عدة مسؤولين فيها، في مقدمتهم نائب الرئيس فؤاد أوكتاي ووزير الخارجية مولود تشاووش أوغلو، على أنها ستتعامل مع أي رئيس يختاره الشعب الأمريكي، وأن العلاقات بين البلدين مستقرة و"فوق الأحزاب".
لا تملك تركيا بالتأكيد رفاهية تجاهل المتغير الكبير في البيت الأبيض، فالولايات المتحدة تلعب أدواراً مهمة في معظم القضايا والملفات وقادرة على التأثير على مختلف الدول. وفي ما يخص العلاقات التركية- الأمريكية تحديداً، الملفات مهمة والتحديات كبيرة والخلافات كثيرة، فضلاً عن أن توجهات الإدارة الأمريكية الجديدة قد تؤثر على مجمل قضايا المنطقة التي تنخرط فيها أنقرة مؤخراً.
لا شك في أن أحد أهم مؤشرات المرحلة الأمريكية المقبلة تجاه تركيا هي أسماء أركان إدارة بايدن. وبالنظر إلى أن التوقعات تشير إلى تركيز نائبته كامالا هاريس على الأجندة الداخلية، تتجه الأنظار لمرشحه لوزارة الخارجية أنتوني بلينكن. وكان الأخير قد صرح بأنه "يدرك المخاطر الأمنية التي تتعرض لها تركيا بسبب الصراع في سوريا" و"يتفهم تهديد العمال الكردستاني الإرهابي والخطير" لها. كما أشار إلى ملامح سياسة بلاده - التي يرجّحها - تجاه تركيا، وفي مقدمتها وجود خلافات ينبغي نقاشها بصراحة "كما يفعل الشركاء" ووقوف بلاده إلى جانب "صديقتنا وحليفتنا في الناتو" وتشجيعها على ضمان "حماية سيادة القانون والحريات الأساسية".
في مقابل كل ذلك، من البديهي أن أنقرة ترتب أوراقها للتعامل مع حقائق المرحلة الجديدة، وعلى عدة صعد. بل إن هناك من يرى بأنها بدأت فعلاً، وأن التغييرات المهمة في الملف الاقتصادي كانت - إضافة لأسبابها الداخلية المعروفة - تحمل رسائل ضمنية تجاه الإدارة الجديدة، من باب أن صهر الرئيس ووزير المالية السابق كان على علاقة طيبة بإدارة ترامب وصهره كوشنر.
في المقام الأول، ترسم تصريحات أدلى بها مؤخراً الرئيس التركي ملامح تصور بلاده للمرحلة المقبلة وبعض مفردات خطابها الرسمي. ففي خطاب له أمام مؤتمرات حزبه في عدة محافظات عبر الفيديو كونفرانس، قال أردوغان: "نريد أن نكون في حالة تعاون أقوى مع أصدقائنا وحلفائنا"، مضيفاً: "نرغب في استثمار تحالفنا الوثيق مع أمريكا" بشكل فعال لحل كافة القضايا الإقليمية والعالمية. ولم تقف رسائل أردوغان عند الولايات المتحدة، بل امتدت لأوروبا التي قال إن بلاده ترى نفسها "في أوروبا وليس في مكان آخر، ونهدف لبناء مستقبلنا معها".
إضافة إلى ذلك، تدرك أنقرة أن أحد أكبر تحديات العلاقة مع الولايات المتحدة هي منظومة S400 الروسية، وأن تفعيلها - كما كان يفترض - قد يؤدي لأزمة كبيرة مع واشنطن تشمل فرض الأخيرة عقوبات عليها. ولذلك فمن المرجح أن تستمر تركيا في سياسة تأجيل التفعيل إلى أجل غير مسمى، على الأقل حتى تضمن أرضية مناسبة للحوار مع الإدارة الجديدة وأن أي خطوة في هذا السياق لن تشعل فتيل أزمة كبيرة معها.
وثالثاً هناك حزمة الإصلاح القضائي التي تعمل عليها وزارة العدل مؤخراً، في سياق حديث الرئاسة وحزب العدالة والتنمية عن العودة لمسار الإصلاحات وتدعيم الحريات والديمقراطية في البلاد. وهو مسار، وإن كانت له مسوغاته ودينامياته الداخلية، لا يمكن فصله تماماً عن سمات المرحلة الجديدة، لا سيما بالنظر إلى التوقيت اللافت.
وهناك كذلك ما يتعلق بالمنظومة الإقليمية، حيث تسعى تركيا لتدوير زوايا الخلاف مع بعض حلفاء واشنطن في المنطقة والعمل على تحسين العلاقات مع بعضهم الآخر، وهنا نتحدث عن السعودية ومصر، وبدرجة أقل ربما "إسرائيل". ولعل اللقاء الأخير الذي جمع وزيري خارجية تركيا والسعودية على هامش اجتماع وزراء خارجية منظمة التعاون الإسلامي؛ مؤشر مهم في هذا الصدد، لا سيما وأن تشاووش أوغلو تحدث عن اللقاء بلهجة ودية لافتة، بعد أيام من تصريحات شبيهة من نظيره السعودي.
في المحصلة، تعوّل تركيا على أنها طرف مهم جداً لأي استراتيجية أمريكية في ما يخص المنطقة، لكنها أيضاً تعمل على إعداد أوراق قوة تفيدها في هذا السياق وتجنبها أي تصعيد غير مرغوب به مع واشنطن.
تحذر معظم التوقعات من أزمات كبيرة بين البلدين في ظل إدارة بايدن، وهي توقعات لها الكثير من الوجاهة بالنظر لتعقيدات الملفات الخلافية وتوجهات بايدن المعروفة وتصريحاته خلال الحملة الانتخابية. لكن يمكنني أن أقول إن العلاقات البينية ستكون أصعب على تركيا، لكن ليست بالضرورة أسوأ من فترة رئاسة ترامب، لا سيما على المدى البعيد.
صحيح أن الأخير امتدح أردوغان كثيراً وأجّل فرض عقوبات على تركيا مؤخراً، إلا أنه أيضاً فرض عقوبات أضرت بالاقتصاد التركي وهدد أنقرة أكثر من مرة، وتميز عهده بالتذبذب والاضطراب في عدة ملفات، بينما يُتوقع من إدارة بايدن أن تؤسس لعلاقات أكثر "وضوحاً ومؤسساتية" حتى ولو كانت صعبة على تركيا كما أسلفت، وهو أمر يمكن لأنقرة أن تستثمره إن امتلكت الأدوات والمفاتيح المناسبة.
وبكل الأحوال، فإن الملفات الخلافية بين البلدين واختلافات وجهات الرأي بينهما أعمق وأعقد من اسم الرئيس الأمريكي وتوجهاته وموقفه من تركيا، وبالتالي يحتاج البلدان أكثر من أي وقت مضى إلى حوار حقيقي ومعمق حول مختلف القضايا، لا سيما إن كان بايدن جاداً في مسألة إعادة الثقة للحلفاء والتماسك لحلف الناتو، ما يرجح أن تبقى العلاقات في مسارها الحالي، المؤسس على فجوة ثقة وخلافات في عدة ملفات حيوية، لكن دون الوصول لحالة القطيعة أو المواجهة، واستمرار التعاون بدرجات مختلفة في معظم القضايا والملفات.
بالنسبة لأنقرة، يؤكد كل ما سبق وخصوصاً تصريحات الرئيس التركي أن علاقاتها مع الغرب أكثر استراتيجية وعمقاً ورسوخاً رغم الخلافات الحالية، مقابل التفاهمات التكتيكية مع روسيا رغم التقارب النسبي. وهي معضلة ستبقى تواجه سياسة تركيا الخارجية في النظام الدولي سريع التقلب والتحول من جهة، والأدوار الكبيرة والكثيرة التي تسعى أنقرة للعبها في مختلف القضايا بالتمايز مع - وأحياناً بالضد من - القوى الكبرى.
twitter.com/saidelhaj