هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
بينا في مقالاتنا السابقة الموقف من قتل من يسيء للإسلام، وأن الأدلة التي يسوقها من يقوم بقتل من يسيء لا تصح دليلا للاستناد إليها، وبخاصة في حالة أن يكون المسيء غير مسلم مقيم في بلاد الغرب، وبينا موقف الفقهاء بكل مدارسها من العنف في بلاد الغرب، فما موقف القرآن والسنة من الإساءة للمقدسات، وبخاصة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم؟ وهي بلا شك جريمة، وكبيرة من الكبائر، ولكن ليس معنى جرمه أن تكون عقوبته القتل، وسوف أركز في مقالي هنا على الأدلة من القرآن الكريم والسنة النبوية.
فإننا أولا لا نجد في القرآن الكريم عقوبة دنيوية كحد من الحدود لمن يسيء للمقدسات، أو للرسول صلى الله عليه وسلم، بل نجد في القرآن آيات تدل على طريقة التعامل مع الإساءة، مثل قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم) البقرة: 104.
فقد كان اليهود ينادون النبي صلى الله عليه وسلم بقولهم: راعنا، وهي كلمة تعطي معنيين: الرعاية، والرعونة، فنزل القرآن ينهى الصحابة عن قول: راعنا، وأن يقولوا كلمة بديلة، وهي: انظرنا، فالآية الكريمة، بينت أن اليهود قصدوا السب والسخرية، فكان رد القرآن هنا بالبحث عن كلمة بديلة لا تعطي هذا المعنى، الأمر الآخر: أنها لم تبين عقابا دنيويا لهم، بل بينت أن لهم عقابا هو: عقابهم الأخروي، (وللكافرين عذاب أليم).
ومثل قوله تعالى: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) الأنعام: 68. فهذه الآية توضح موقف المسلم عندما يرى الإساءة للإسلام، أو مقدساته وثوابته؛ في مجلس من المجالس، وأن عليه في هذه الحالة: الإعراض عن هذا المجلس، حتى يتغير الحديث إلى حديث آخر بعيدا عن النيل من مقدساته.
وقوله تعالى: (وقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا) النساء: 140.
فالآية الكريمة هنا تتحدث عن حالة أن المسلم إذا جمعه مجلس بأناس، يمارسون السخرية والاستهزاء بآيات الله، وينطق فيه بكلام فيه كفر بها، فمطلوب منه عدم القعود فيها، حتى يتحولوا لحديث آخر، مثلما كان الأمر في الآية السابقة.
لا نجد في القرآن الكريم عقوبة دنيوية كحد من الحدود لمن يسيء للمقدسات، أو للرسول صلى الله عليه وسلم، بل نجد في القرآن آيات تدل على طريقة التعامل مع الإساءة، مثل قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم) البقرة: 104.
فنلاحظ أن القرآن الكريم في بيانه لعقاب الذين يؤذون الله ورسوله، لم يرتب على هذا الأذى عقابا دنيويا بحد من الحدود، بل كان الحديث عن عقاب الله في الآخرة، وذلك نجده بوضوح في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) التوبة: 61. وفي قوله: (إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا) الأحزاب: 58. فبين أن عقابهم هو: لعنة الله لهم في الدنيا والآخرة، وأن العذاب الأليم جزاؤهم في الآخرة، فعقاب الدنيا هنا هو عقاب معنوي وليس عقابا ماديا، بحد من الحدود، أو القتل.
كما ورد في السنة النبوية نصوص وافرة تبين منهج النبي صلى الله عليه وسلم تجاه الإساءة، وهي الصفح والعفو، والتجاهل التام، ومن هذه النصوص:
1 ـ حديث إسلام أم أبي هريرة رضي الله عنه، والذي رواه الإمام مسلم بتفاصيله، يقول أبو هريرة رضي الله عنه: كنت أدعو أمي إلى الإسلام وهي مشركة، فدعوتها يوما فأسمعتني في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أكره، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، قلت يا رسول الله، إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام فتأبى علي، فدعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، فادع الله أن يهدي أم أبي هريرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم اهد أم أبي هريرة".
فخرجت مستبشرا بدعوة نبي الله صلى الله عليه وسلم، فلما جئت فصرت إلى الباب، فإذا هو مجاف، فسمعت أمي خشف قدمي، فقالت: مكانك يا أبا هريرة، وسمعت خضخضة الماء، قال: فاغتسلت، ولبست درعها، وعجلت عن خمارها، ففتحت الباب، ثم قالت: يا أبا هريرة: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
قال فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيته وأنا أبكي من الفرح، قال: قلت: يا رسول الله أبشر، قد استجاب الله دعوتك، وهدى أم أبي هريرة، فحمد الله، وأثنى عليه، وقال خيرا، قال قلت: يا رسول الله، ادع الله أن يحببني أنا وأمي إلى عباده المؤمنين، ويحببهم إلينا، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم حبب عبيدك هذا ـ يعني أبا هريرة ـ وأمه إلى عبادك المؤمنين، وحبب إليهم المؤمنين" فما خلق مؤمن يسمع بي ولا يراني إلا أحبني.
يقول ابن هبيرة: (في هذا الحديث من الفقه: أن أبا هريرة، كان من توفيقه أنه لما كانت أمه تسمعه ما يكره على إسلامه، لم يقابلها بمثله، ولكنه أتى الأمر من بابه، وطلب الفضل من أهله، ورأى أن يطلب لها الخير على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليكون قد بلغ ما أراده في بر والدته، فطلب لها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جرى به قدر الله، لأن الله تعالى جعل إسلامها آية دالة على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسالته؛ ليعلم كل سامع هذا الحديث: أن النار لا تطفئ بمثلها من النار، ولكن بالماء، ويستدفع السوء بالدعاء، وتطلب المستصعبات من القادر على الأشياء).
ومعلوم أن أبا هريرة أسلم رضي الله عنه ـ على أشهر وأرجح الأقوال ـ سنة 7 هجرية، في عام فتح خيبر، ومعظم أحداث القتل التي استدل بها من يرى قتل الساب، معظمها قبل خيبر، وأم أبي هريرة أسلمت بعده، فموقف أم أبي هريرة إذن متأخر عن الأحداث التي تساق للتدليل على قتل الساب.
ورد في السنة النبوية نصوص وافرة تبين منهج النبي صلى الله عليه وسلم تجاه الإساءة، وهي الصفح والعفو، والتجاهل التام
2 ـ الدليل الثاني: يحدثنا سلمة بن الأكوع عن موقف حدث له مع بعض المشركين بعد صلح الحديبية، يقول فيه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعانا للبيعة في أصل الشجرة، قال: فبايعته أول الناس، ثم بايع، وبايع، حتى إذا كان في وسط من الناس، قال: "بايع يا سلمة"، قال: قلت: قد بايعتك يا رسول الله في أول الناس، قال: "وأيضا"، قال: ورآني رسول الله صلى الله عليه وسلم عزلا ـ يعني ليس معه سلاح ـ، قال: فأعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم حجفة ـ أو درقة ـ، ثم بايع، حتى إذا كان في آخر الناس، قال: "ألا تبايعني يا سلمة؟" قال: قلت: قد بايعتك يا رسول الله في أول الناس، وفي أوسط الناس، قال: "وأيضا"، قال: فبايعته الثالثة، ثم قال لي: "يا سلمة، أين حجفتك ـ أو درقتك ـ التي أعطيتك؟"، قال: قلت: يا رسول الله، لقيني عمي عامر عزلا، فأعطيته إياها، قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال:" إنك كالذي قال الأول: اللهم أبغني حبيبا هو أحب إلي من نفسي".
ثم إن المشركين راسلونا الصلح حتى مشى بعضنا في بعض، واصطلحنا، قال: وكنت تبيعا لطلحة بن عبيد الله أسقي فرسه، وأحسه، وأخدمه، وآكل من طعامه، وتركت أهلي ومالي مهاجرا إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، قال: فلما اصطلحنا نحن وأهل مكة، واختلط بعضنا ببعض، أتيت شجرة فكسحت شوكها، فاضطجعت في أصلها، قال: فأتاني أربعة من المشركين من أهل مكة، فجعلوا يقعون في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبغضتهم، فتحولت إلى شجرة أخرى، وعلقوا سلاحهم واضطجعوا، فبينما هم كذلك إذ نادى مناد من أسفل الوادي، يا للمهاجرين، قتل ابن زنيم.
قال: فاخترطت سيفي، ثم شددت على أولئك الأربعة وهم رقود، فأخذت سلاحهم، فجعلته ضغثا في يدي، قال: ثم قلت، والذي كرم وجه محمد، لا يرفع أحد منكم رأسه إلا ضربت الذي فيه عيناه.
قال: ثم جئت بهم أسوقهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وجاء عمي عامر برجل من العبلات، يقال له: مكرز يقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على فرس، مجفف في سبعين من المشركين، فنظر إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "دعوهم، يكن لهم بدء الفجور، وثناه"، فعفا عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنزل الله: (وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم) الفتح: 24، الآية كلها".
ففي هذا الحديث، نرى أن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه، قد أمسك بأربعة مشركين وأسرهم، وصحبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لينزل بهم عقوبته المناسبة، ولكن الرد جاء من رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "دعوهم، يكن لهم بدء الفجور، وثناه" وعفا عنهم صلى الله عليه وسلم، ولو كان القتل حدهم، ما كان للنبي صلى الله عليه وسلم أن يعفو، وهو القائل صلى الله عليه وسلم: "تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب".
فعفوه عن المشركين الأربعة هنا، يدل على أن عقاب ساب الرسول صلى الله عليه وسلم، لا عقوبة حدية له، بل هو تعزير، يقبل العفو من الحاكم، ويبنى على ما يحكم به القانون والدستور في البلاد التي يقع فيها هذا الأمر.
وهناك نصوص أخرى يمكننا الاستشهاد بها على ما بيناه في هذا المقال، ولكن المقام لا يتسع للإسهاب، وأردنا التدليل على قضية يساء فهمها، ويساء تطبيقها من البعض للأسف.
[email protected]