هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
راجت في الآونة الأخيرة فيديوهات لنوع من الأغاني الشعبية في أعراس منطقة رام الله، وقد ظهر تباين في نظرة الناس وتعليقاتهم على هذا النوع من الغناء المصحوب بسحجة جماعية. حتى إن البعض اعتبره خارج منظومة التراث الغنائي أو الرقص الشعبي (الدبكة).. الأمر الذي دفعني للبحث والكتابة عنه في محاولة لوضعه في قالبه الذي ينتمي له، بعيداً عن النظرة السطحية التي تعتبر ما يُقدم لها من لون غنائي أو رقص في الأعراس هو النموذج الفلكلوري الوحيد الذي عرفته فلسطين.
لقد عرفت فلسطين أنواعاً كثيرة من القوالب اللحنية في غنائها الشعبي مع تفاوت في حضور وشهرة هذه القوالب، ومنها: الهجيني، العتابا، الدلعونا، السامر، الدحية، الحدا، مْويل، ع الماني، المعنّى، زريف الطول، جفرا، الترويد، العقيلي، الملالاة، الجلوة، ريدها، الزجل، الشروقي، الشوباش، الطلعة، الواو، الموال البغدادي، الميجنا، عاليادي، الاهزوجة، المثمن، المهاهاة، البدع... ولكل من هذه الأصناف ميزات وصفات تجعلها تنتظم في قالب لحني مميز عن سواها.
والقالب اللحني هو صيغة الوزن الموسيقي الذي قام عليه هذ النوع من الغناء بعد فترة طويلة من غنائه وترديده، حتى صار له شكل ونمط معروف ودارج في مناطق متعددة في فلسطين. وصار الناس يصبون من كلامهم وإبداعهم الشعري المغنى في هذا القالب اللحني.
ومن يتابع ويهتم بالمورث الغنائي والزجل الشعبي ينتبه لهذه الفوارق التي تتمايز من حيث الكلمات وسرعة اللفظ والفروق في الجملة الموسيقية من حيث شدّ الألفاظ، والإسراع أو الإبطاء في لفظ الكلمات وعدد الشطرات وطبيعة القوافي..الخ. وهو حقل غني وكبير ومتداخل.
ويعتبر "السامر" واحداً من أهم القوالب اللحنية المعروفة في الأعراس والتي كانت مُتداولة على نطاق واسع في فلسطين وبلاد الشام وسيناء. وهو فن قديم يُعتقد بأن له صلةٌ بغناء العرب للشعر في العصر الجاهلي (التهليل والتلبية). ولهذا القالب اللحني أنماط من القصائد تُغنى مع نوع من الدبكة البطيئة وسحجة بالكف.
والسامر من السّمر والسهر ليلاً، وفي اللغة، السامر: الجماعة يسمرون ليلاً، وقد صار السامر اسماً يدل على المكان الذي يجتمعون فيه للسهر والسّمر، وكذلك يُقال "السامر" لما يُغنى في تلك السهرات.
والفلسطينيون يطلقون السامر على الغناء الشعبي الذي يُقال بشكل أساسي في ليالي الفرح من قبل الرجال دون سواهم. وهو شعر مغنى له وزن وقافية وله لحن خاص به، ولكل قرية لهجة وطريقة خاصة في قوله وأدائه.
والسامر غناء مرتبط بحركة الجسد، حيث يرافقه السحجة (أي التصفيق الايقاعي)،وتمايل الجسد بايقاع منضبط وموزون، وفي السامر يكون الاعتماد بشكل أساسي على حركة اليدين والكفين، وهو نوع من الدبكة الخفيفة، ذلك أن الفلاحين يرفضون اعتباره رقصاً، فالرقص للرجال من خوارم المروءة بحسب الاعتقاد الشعبي. وسحجة السامر غير "السحجة" التي يكون فيها القوال وحيداً ولا يردد الجمهور إلا لازمة واحدة كسحجة الحداء.
وتختلف السحجات عن بعضها في السامر، من حيث الحركة وقوتها وسرعهتا وتكرارها ومدى انحناء الظهر، وترتيب الحركات في الآداء وإن كانت جميعها على تنوعها تبقى بذات القالب واللون فهي دبكة خفيفة سهلة وحيوية.
ويقام السامر في سهرات الأعراس، بالإضافة لبعض المناسبات التي تتطلب حماسة من المشاركين مثل الانتصار في حرب "سامر الحرب"، أو عودة رجل عزيز على البلدة، أو قدوم ضيف مهم "سامر الضيف"... الخ.
وهو فن قولي حركي، أي إنه يقوم على قول الغناء والحركة في آن واحد، فلا يصح قول السامر جلوساً، ذلك أن الإيقاع لا ينتظم ولا يكون بذات الحيوية المرتبطة بالحركة القائمة على السحجة وحركة اليدين.
والسامر الشعبي قالب غنائي جماعي، حيث يردد المجموع من خلف البدّاع أو القوال أو القاصود، ويشاركونه في الحلقة كجزء من الأداء ويسمون الرديدة، حيث يصطفون على شكل هلال أو دائرة واسعة تتوسطها النار أو المشاعل، وينقسمون إلى فريقين ثم يبدأون بالسحج، فيقول فريق شطرة من البيت ويتبعه الفريق الثاني مردداً الشطرة نفسها وهكذا. ويتناوب الفريقان التصفيق في الأثناء، فالفريق الذي يمارس التصفيق لا يغني إلا بعد أن ينتقل الدور له وبعد أن يتوقف الفريق الآخر ليتم تبادل الأدوار.
وقد تختلف مسميات هذا القالب اللحني من منطقة إلى أخرى ففي مشارق نابلس وجنوب فلسطين ووسطها يُسمى "السامر"، وتسميه منطقة البيرة "سحجة" وبعضهم يُسميه "القصيد"، وبعض أهل الجنوب والبدو وأهل سيناء يقولون عنه "الرزعة"، وقد نجد له مسميات عدة في البلدان العربية الأخرى.
وهذا النوع من غناء الأعراس والدبكة غالباً ما يؤديه كبار السن ويفضلونه على غيره، لأنه لا يتطلب جهداً عضلياً وقوة بدنية مثل الدبكة. بل هو لحن وصورة ذات حركة متوازنة إلى الأمام عبر الانحناء والتمايل بالجسد في تناسق جماعي بديع يوحد الذوات الفردية في ذات الجماعة.
ويبدو أن أهم ما يميز هذا اللون من الغناء و (الرقص) هو ما يمكن استشعاره من بث الطمأنينة والراحة والطرب في النفس بسبب رتابته المعهودة، وبسبب رصانة معانية وجزالة ألفاظه قياساً لغيره من ألوان الغناء. فهو بالإضافة لدوره التسلوي والمرح مليء بالقيم والنُّصح والسمات الحضارية للمجتمع. وكان يُعتبر كالنشيد الوطني في المُجتمعات القروية قبل العام 1948، وينتظره الرجال بفارغ الصبر، لما فيه من طاقة وحماسة وإثارة لمشاعر الفخر والرجولة.
ومن طريف العادات في السامر الشعبي لدى بعض المجتمعات مشاركة المرأة في الحلقة، حيث تتقدم امرأة تلبس عباءة لا يُرى منها سوى عينيها وتحمل بيدها سيفاً تحوش به عن نفسها وتمنع الرجال من الاقتراب منها، حيث يبدأون بتضييق الحلقة لتصبح في الوسط فتبرع في إبعادهم عن نفسها بالسيف، وتُسمى هذه المرأة "الحاشي". وقد استبدلت عند البعض برجل يلبس عباءة امرأة ويمنع الرجال من الوصول إليه بسيفه وهو يرقص به بشكل بارع. وقد يكون الرقص بالعصا بدل السيف.
وتبدأ أبيات السامر الشعبي بمدح الرسول عليه الصلاة والسلام:
أول كلامي بصلي عالنبي الهــادي أحمد محمد عليه الشمع وقادي
ثاني كلامي بصلي عالنبي المختار أحمد محمد ناصرنا على الكفار
واذا كان الفرح في قرية مسيحية يبدأ البدّاع أو القوال بمدح مريم العذرا أو عيسى عليه السلام:
أول كلامي بالدستور من خوف ليغلط لساني
لأمـدح العـذرا أم النور من يـوم ربي نشــاني
ويبدأ القوال بعد ذلك بالتحية للمشاركين في الفرح:
مســيك بالخير نص الليل مسيتك يا عـود ريحان جوا القلب حطيتك
مسيك بالخير يا قوّال ويا شاطر مسيك بالخير خلي القول عَ الخاطر
لينتقل بعدها لمدح المُحتفل بهم، والترحيب بالضيوف والمباركة لأهل العرس، ونرى أبعاد كثيرة في الأبيات المُغناه يحرص البّداع على ذكرها كالبعد الديني والفخر وحكايات البطولة، والحب والغزل، والهجاء، والحياة اليومية، والنصح...الخ. وأبيات السامر في الغالب هي قصائد متوارثة لا مُرتجلة، وإن كان للبدّاع أو القوّال الحق في الارتجال أحياناً. وأحياناً تكون الأبيات المُغناة قصصية تصف معركة أو واقعة حب أو غيره.
ومن السامر الشعبي قولهم:
أول كـلامي بصلي عالنبي الهادي ومحمـد إللي عليه النـور بازيـادي
يا حاضرين كلكم بالخيـر مسـيكم يا ناوييـن على الفـرح ربي يهنيكم
يا أحباب يومن علمنا فرحكم جينا من خوف رد العتب والدرب ترمينا
..........
مسيك بالخير ياللي جاي هالساعة خصرك رقيق وفي ايدك خاتم الطاعة
خاتم صحيبي وقع في البير وله رنه يا من سمع رنته مضمونه لو الجنة
...........
يا شـجرة الحـور باب الدار تتمـايل واشرفت عالموت ماجا صاحبي سـايل
يا شجرة الحور باب الدار مخضرة واشرفت ع الموت ما جا صاحبي مرة
يا شجرة الحور باب الدار مزروعة وأشرفت عالموت ماجا صاحبي ساعة
وعليه فإن السامر واحد من فنوننا الشعبية الجميلة المُرتبطة بالفرح، في المجتمعات القروية والبدوية على السواء، وقد تتمايز وتختلف بعض القصائد المُغناة من مُجتمع لأخر إلا أنها جميعاً تصب في ذات القالب اللحني الذي شكل واحداً من دائم الفرح الفلسطيني طوال قرون.
واليوم وعلى الرغم من تراجع أداء هذا الفن الشعبي وانحسار دوره واقتصاره على بعض المناطق في رام الله والبيرة وجنوب فلسطين فإن الواجب يدعونا لمزيد من التوثيق والعمل على بعثه للحياة كي يبقى حياً بالآداء والممارسة، "ومن نسي قديمه تاه".