لبنان: تحديات بحجم زوال وطن

بين تشرين وتشرين عاد سعد الدين.. ولكن كم كانت التكاليف باهظة على كل اللبنانيين وفي كل الاتجاهات وعلى الصعد كافة؟ فالفاتورة السياسية للأحزاب والشخصيات الدائرة في الفلك الحزبي كلها أصبحت منبوذة، ما عدا أنصاف الآلهة الذين لهم حصانات لا تنتهي إلا بالموت، حتى الحياة السياسية خلت من أدبيات اعتدنا عليها عشرات السنين، وبات الكذب والخداع فن الممكن. أضف إلى ذلك نظريات من التناقضات التي تشمل الجميع بدون استثناء وبمختلف المسميات؛ من الوطنية إلى السيادة مرورا بالميثاقية وأبعادها المختلفة بحسب المصلحة والحاجة، فالذي يصلح اليوم ويمجد ميثاقية ما يخذلها غدا وينسحب منها، وكأني بالسيدة ماجدة الرومي تغني: كلٌ يغني على ليلاه وأنا على ليلاي أغني.

أما حزبيا، فالحياة الحزبية في أضعف أحوالها، فقد ملت الناس الأحزاب والحزبين، علما أن الأحزاب عنوان من عناوين الديمقراطية التي تشكل أساس الحياة السياسية. فالحقيقة تقول إن الأحزاب اللبنانية بمعظمها لا تفهم إلا لغة المحاصصة وتقسيم المغانم، وللأسف بلا حياء وبوجه مكشوف فاقع، ويُخشى أن تقتل الحكومة الحريرية القادمة قبل أن تولد.

مؤشرات قاتلة

وعلى الصعيد الاقتصادي، المؤشرات حدث ولا حرج. فالانهيارات بالجملة من الكتلة النقدية المتضخمة إلى مستويات قياسية، وصولا إلى نسب النمو السالبة بما يفوق 20 في المئة حسب بيانات البنك الدولي. أما سعر الدولار فقد بلغ أماكن ليس بالسهل إن لم نقل من المستحيل عودته إلى أسعاره السابقة، أما التضخم المفرط فقد نكون من أوائل الدول في السنة الأخيرة، فالأمراض الاقتصادية تنخر عظم المؤسسات التي تعلن إفلاسها الواحدة تلو الأخرى، والمصارف تكاد تموت وتقتل معها أحلام المودعين وآمالهم، لبنانيين وعربا ومستثمرين أجانب؛ قد يشكلون قريبا أداة ضغط على الدولة اللبنانية في المحافل القضائية العالمية إذا لم يتدارك المعنيون الأمر، ناهيك عن تصنيف ائتماني بات في الحضيض.

تكليف بطعم لبن العصفور

لقد سلك التكليف دروبه الوعرة بمعركة خاضها الحريري باللحم الحي من جهة وبلبن العصفور الذي وفره رئيس البرلمان نبيه بري من جهة أخرى، حيث كان اللاعب الأساسي الداخلي الذي ساهم في إجراء الاستشارات والحفاظ على ما تبقى من اتفاق الطائف، الذي سيكون على المحك في عملية التأليف؛ التي تتطلب عدة أمور لبلوغ سفينة التأليف الميناء وخط السلامة، وذلك عبر مجموعة من الخطوات:

أولها: لا بد من انفتاح الرئيس سعد الحريري على الناس المنتفضين وإيجاد أرضية مشتركة لحكومة مهمة بفترة زمنية محددة، وحبذا لو يشارك في الحكومة وزراء من رحم الثورة.

ثانيها: من المفيد للحريري بلورة رؤية مع رئيس الجمهورية تعزز الوجود المسيحي في الحكومة؛ ضمن آلية لا تمس بالشكل الذي يرغب المجتمع الدولي به، حتى لا يقع الصدام على غرار حكومة الرئيس دياب.

ثالثها: حبذا لو يكمل الفرنسي المشوار ككاسحة ألغام في مرحلة التأليف، التي على ما يبدو هي كثيرة وعسيرة.

رابعا: من المفيد بقاء دور أمريكي بنّاء، لا سيما بعد التسليف الرسمي اللبناني عبر كل الأطراف، وكل من موقعه في اتفاق الإطار مع الإسرائيلي، وذلك لضمان وجود حكومة محصنة تستطيع المضي بالتفاوض والإنجاز.

خامسها: لا بد من مراجعة لبنانية شاملة في كل الخطوات الإصلاحية القادمة التي ستكون عنوان المفاوضات مع المجتمع الدولي وصندوق النقد، وواجباته المالية والاقتصادية القاسية التي تحتاج مصارحة ووضوحا، وإلا المرحلة القادمة ستكون مرحلة النار تحت صفيح ساخن.

بين الزوال والمحال..!!

إن التناقض في ترتيب بيت حكومي جديد للحريري يدور في توليفة حكومة اختصاصيين مستقلين، وبعضهم مقربون من الأحزاب وليسوا حزبيين بالمعنى الفج للخروج بأقل الخسائر والحصول على ثقة البرلمان وقليل من ثقة الناس أولا، تلك الثقة التي ربما تعود جزئيا في حال تطبيق خطوات إصلاحية ملموسة، وهو أمر ليس بالهيّن.

وعليه، عدنا إلى المربع الأول الذي يتجلى في معيار الثقة من الداخل والإقليم والخارج الذي قد يمل قريبا من الحالة اللبنانية المستعصية. ويكفي التذكير بكلام وزير الخارجية الفرنسي في مجلس الشيوخ منذ أيام؛ بأن لبنان قد يكون إلى زوال إن لم تأت حكومة فاعلة تقوم بالإصلاحات التي ستكون عنوان المرحلة القادمة. فهل يُقدِم اللبنانيون لإنقاذ بلدهم، أم الأنانية والشخصانية والارتهان للخارج سيبقى سيد الموقف؟!

إن التكليف التشريني في عهد ترامب قد يبصر تأليفا حكوميا في عهد ترامب- الجزء الثاني، أو بايدن بالجزء الأول في تشرين الثاني/ نوفمبر 2020، ولكن بين المرشحين للبيت الأبيض هل من تسوية مع طهران تسهل التأليف على الحريري الذي لن يجد طريقا مفروشا بالورود؛ لا من الظروف المحيطة، وربما أيضا بكثير من الأطراف التي لا ترغب في وصوله قبل أن يكتب له النجاح إن قدر، ولعله مرهون بالرضى الدولي والتسوية الإقليمية والارتباطات الإقليمية والدولية لمعظم الأطراف واللاعبين الأساسيين على الساحة اللبنانية، فمتى تبلورت تسوية الإقليم قد يصبح الحل اللبناني تفصيلا ثانويا، ولكن من له القدرة على الانتظار في زمن الانهيار؟