هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
كيف يحاسب الله الناس يوم القيامة؟ فردي أم جماعي؟ هذا السؤال ليس افتراضيا، وليس سؤالا لا ينبني عليه عمل، بل هو سؤال مهم، والإجابة عليه تحل مشكلات كبيرة تقع فيها الأمة مجموعا وأفرادا، إن المشهور بين الناس: أننا سنحاسب فرادى، وأن القرآن الكريم قد قال: (وكلهم آتيه يوم القيامة فردا) مريم: 95، (فأما من أوتي كتابه بيمينه) الانشقاق: 7، و(أما من أوتي كتابه وراء ظهره) الانشقاق: 10، فهل فعلا الحساب يوم القيامة فردي فقط؟ أم إن هناك حسابا آخر جماعيا؟
إن التشريع الإسلامي في تكاليفه، وفي أوامره ونواهيه، من حيث الفروض والواجبات، انقسمت فيه التكاليف إلى فروض فردية، وفروض جماعية، فالفروض الفردية، هي ما يطلق عليها: فروض العين، أي أن المطالب بأدائها هو الفرد نفسه، يثاب بفعلها، ويعاقب بتركها، وهناك فروض جماعية، وهي ما يطلق عليها: فروض الكفاية، وهي فروض يوجه فيها الأمر بأدائها إلى الأمة، أو الجماعة المسلمة.
فإذا كان التكليف على مستويين: فردي، وجماعي، فمن الطبيعي والمنطقي، أن يكون الحساب على مستويين كذلك: فردي، وجماعي، لأن انتشار ثقافة التهاون في أداء الفروض الجماعية، جعل الأمة تقصر في أدائها، وفي التعاون عليها، والتي بسببها تخلفت الأمة، وهي كل ما يتعلق في ما يسمى في الفقه الإسلامي: فروض الكفاية، ونماذجه في الحياة لا تنحصر.
فالحساب يوم القيامة إذن فردي وجماعي، فالأول يحاسب فيه الفرد على ما فعل في الدنيا، من صالحات، أو قصر في أداء الفروض، أو فعل المنهيات التي نهى عنها الشرع. وهو ما فصلت فيه النصوص، من حيث الحساب، ومن حيث الجزاء الدنيوي، والأخروي.
والحساب الثاني: هو حساب جماعي، تحاسب عليه الأمة، في ما يتعلق بها من تكاليف، فهي أمة شهيدة على كل الأمم، وهذا لون من ألوان الحساب الجماعي، فهناك حشر فردي وحشر جماعي، وهناك حساب فردي، وحساب جماعي، وهناك كتاب للفرد، وهناك كتاب للأمة.. كما بين ذلك القرآن الكريم.
إذا كان التكليف على مستويين: فردي، وجماعي، فمن الطبيعي والمنطقي، أن يكون الحساب على مستويين كذلك: فردي، وجماعي، لأن انتشار ثقافة التهاون في آداء الفروض الجماعية، جعل الأمة تقصر في آدائها، وفي التعاون عليها، والتي بسببها تخلفت الأمة،
فالحشر الفردي قال فيه تعالى: (وكلهم آتيه يوم القيامة فردا)، والحشر الجماعي قال فيه تعالى: (وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ. حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) النمل: 84،83.
وقال تعالى: (وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ) غافر: 5.
وقال تعالى: (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) الأنعام: 22.
وقال تعالى: (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ) يونس: 28. فهذه الآيات تبين الحشر الجماعي للناس.
وقد تناول هذه الفكرة المفكر الكبير محمد باقر الصدر، فكان مما قاله عنها: (نلاحظ في القرآن الكريم أنه من خلال استعراضه للكتب الغيبية الإحصائية، تحدث عن كتاب للفرد، وتحدث عن كتاب للأمة، عن كتاب يحصي على الفرد عمله، وعن كتاب يحصي على الأمة عملها، وهذا تمييز دقيق بين العمل الفردي الذي ينسب إلى الفرد وبين عمل الأمة).
لاحظوا قوله تعالى: (وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) الجاثية: 29،28.
هنا القرآن الكريم يتحدث عن كتاب للأمة، أمة جاثية بين يدي ربها ويقدم لها كتابها، يقدم لها سجل نشاطها وحياتها التي مارستها كأمة.
(إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون)، فهو لا يسجل الوقائع الطبيعية، الفسلجية، الفيزيائية، إنما يحدد ويستنسخ ما كانوا يعملون كأمة.
هناك كتاب لأمة جاثية بين يدي ربها، وهنا لكل فرد كتاب.
إنه ليس فقط يوجد كتاب للفرد، ويوجد كتاب للأمة، بل يوجد إحضار للفرد وإحضار للأمة، هناك إحضاران بين يدي الله سبحانه، الإحضار الفردي يأتي فيه كل إنسان فردا فردا، وإحضار آخر للأمة بيني يدي الله سبحانه وتعالى.
أما العمل الذي ينبني على هذه الفكرة، أن الأمة تدرك أن لها كتابا وحسابا وحشرا يوم القيامة، تسأل فيه عن عملها المطلوب منها، وهو عمل كبير، نالت بسببه تكريم الله عز وجل بقوله: (كنتم خير أمة أخرجت للناس) آل عمران: 110، فهذه الخيرية مرهونة بعمل، ومرهونة بدور تقوم به نحو نفسها، ونحو الأمم الأخرى، وإن قصرت فيه، حوسبت عليه.
فكرة الحساب الجماعي، فكرة تحتاج لإسهاب، وبسط، ولكن المقام لا يتسع، وشأنها في ذلك شأن فروض الجماعة (الكفاية) التي لم تنل حقها من الشرح والتوضيح، والاهتمام من الأمة، لأنها تتعارض مع رغبات الدول الاستعمارية، والحكام المستبدين، فإن القيام بهذه الواجبات، لا شك يحول بين أطماع المستبد العالمي، والمحلي، والإقليمي.