أصبح تقليدا أساسيا أن يشير أي سياسي عربي، من الأنظمة اللاهثة نحو
التطبيع والتحالف مع المؤسسة الصهيونية، إلى
الفلسطينيين وقضيتهم، لا بعين الشقيق المُعين لهم، أو الناقد لمسيرتهم والداعم لحقهم، بل بحمل معول هدم وتشويه التاريخ والقضية، والإشادة بمستعمر استيطاني لا يرى بالمطبعين والحلفاء الجدد سوى أدوات وجسر عبور نحو مشاريع تخدم سيطرته عليهم، ولتثبيت أقدام أنظمة ثَبُت بالبرهان وجودها ووظيفتها الأساسية إعاقة النضال الفلسطيني وتعطيل دور ونهضة عربية فاعلة بهذا الشأن. وإثر الثورات المضادة في السنوات الأخيرة التي سرعت من عملية التحول في العلاقة مع المشروع الصهيوني، كانت بارزة في حملة التشويه الكبرى للفلسطيني وقضيته.
حكايات بندر بن سلطان المتلفزة، وقبلها "شجاعة" عربية في عواصم مختلفة ترى في تل أبيب أنها أفضل من يشكل سورا منيعا يحمي الحلم الصهيوني.. هذا الشجاعة غابت سبعة عقود، ولم تظهر إلا في حمل الرواية الصهيونية، فأصبح الإطراء المتبادل بين نخب اليمين الصهيوني الفاشي في تل أبيب وعواصم عربية الحاضر الدائم..
منابر تتبادل الهجوم على الفلسطيني، ولعل الدلالة تصبح واحدة في تناول أصل الهجوم على نضال الفلسطينيين وقادتهم واتهامهم "بالنازية والفساد"، وإضاعة الفرص المتتالية للسلام، والتحلل العربي الرسمي من القضية. أي ضرورة الشيطنة لتبرير العجز ثم التآمر والتحالف والانتقال لخندق العدو، واستبدال كل ما يتعلق بالقضية التي تندد بالمشروع الصهيوني الاستعماري واستبداله بطرح شخصية الفلسطيني الإرهابي الشرير الناكر لجميل علبة السردين وكيس الطحين، والأهم رافض لتهويد تاريخه وحضارته وحقه.
هكذا يفهم ابن سلطان وابن زايد وابن سلمان وابن الأسد وزول العسكر قضاياهم، وكل أبناء "الشجاعة والفحولة" الظاهرة على أجساد عربية ومجتمعات مقموعة في زجر أصحاب الحق عن نكرانهم، لا لجميل أخوّة عربية وإسلامية وإنسانية، بل بسبب رفض أصحاب الحق تخاذلا وتساقطا منحدرا باسم القضية وباسم فلسطين. ولأن إضاعة الفرص التي يفهمها الطاغية العربي وابنه ونسله هي فرصة الانبطاح أمام العدو لحماية كرسي الحكم ووظيفته وشرعيته المستمدة بمباركة صهيونية، ولأن المؤرق فعلا لصهاينة العرب وأسيادهم أن يبقى أبناء فلسطين وأصحاب الأرض والحق من هو صامد فوق أرضه ويعكس كل صباح مرآة التخاذل الطاعن في قضيته؛ في وجوه تتسابق لالتقاط الصورة عند منحدرات إسفاف مخز للتاريخ، تشتد الهجمة كل لحظة أكثر من أي وقت مضى.
العواصف المتلاحقة من إقامة تحالف عربي رسمي مع المؤسسة الصهيونية، تقتضي شغفا مستجدا بالرواية الصهيونية وقدرة عجيبة من الركاكة المضادة للأخلاق الإنسانية، والخنوع المنفرد الذي يظهر به أمراء وزعماء ونخب من أبو ظبي والرياض إلى المنامة والخرطوم والقاهرة، لحمل الرواية الصهيونية بأفضل الحوامل بحالٍ من الرِقة المهينة وذلٍ يطرح تساؤلا عن شاعرية هؤلاء نحو المستعمرين لثقافتهم وأرضهم وتاريخهم، وإعادة بناء الرواية الصهيونية لجيل عربي يرى في الأنظمة ونخبها وسياساتها أعداء ينتظمون في جبهه واحدة ضده.
وبالعودة لتحميل الفلسطينيين كل الفشل التاريخي و فرصه "الذهبية" التي يتشدق بها كل متقرب من الرواية الصهيونية، نشر قبل أيام (7 تشرين الأول/ أكتوبر) السفير
الإسرائيلي السابق في فرنسا الكاتب والمؤرخ ايلي بارنافي مقال في صحيفة "لوبوان" بعنوان "نهاية حل الدولتين"، وهذا الحل أصبح من الأوهام نتيجة السياسة الإسرائيلية على الأرض والمتبعة مع الفلسطينيين منذ أوسلو إلى اليوم، وأن "الدولة اليهودية" القائمة الآن على اعتراف دونالد ترامب وبعض المعسكر السني في المنطقة لمواجهة "إيران" قد أضر بمشروع الحل السلمي وحل الدولتين. ويضيف السفير أن اتفاقية "أبراهام" المزعومة بين
الإمارات وإسرائيل لا تخدم إبدا السلام في المنطقة، "نحن خذلنا الفلسطيني. أقول هذا لأصدقائي الفرنسيين بكل قوة أستطيعها: لا تتخلوا عن حل الدولتين، لأنه لا يوجد غيره".
من أضاع الفرص التاريخية هو العقل العربي الرسمي المتصهين، آلاف البديهيات ليست بحاجة لتأكيد، أما شتم الفلسطينيين وقضيتهم والاصطفاف بإعجاب لمشروع استيطاني في المنطقة، لن يغير شيئا لا في النظرة ولا السياسة الصهيونية.. كل هذا الإعجاب الرسمي العربي السري والعلني بسطوة المحتل للتغطية على فشل تاريخي، فلا هم كانوا عربا أقحاحا مع فشل أن يكونوا حلفاء لقضاياهم، وأن يكونوا أصحاب مواقف أخلاقية على الأقل، فاقتربوا من التصهين للاستحواذ على صفة ما ستبقى في وعي البشر: تآمر مفضوح وضياع فرص لأن يكونوا أصحاب ضمائر وصُناع تاريخ.
twitter.com/nizar_sahli