تختلِفُ طرائق ومنطلقات إنتاج
المعرفة بداهة في بيئة الشرك عنها في بيئة التوحيد، إذ أن إنتاج المعرفة تعبير عن رؤية معينة للإله والإنسان والكون، وتجسيد لنسق أخلاقي ما. علاوة على ذلك، فهناك آليات تولِّد معرفة نقديَّة شديدة الفعالية، وآليات أخرى تجتر ما لاكه سلف المنتِج اجترارا ببغائيّا سلبيّا. كما أن عمليَّة إنتاج المعرفة يجب أن تُفرِّق ابتداء بين الحقائق المتشظية والمعلومات المصمتة المتناثرة (المادة الخام)، وبين
الحقيقة الكليَّة والنموذج التصوري (المنتَج المعرفي)؛ الذي يتشكَّل من جزئيَّات الحقائق(1).
وكما أن المنطلق التوحيدي مُباين لمنطلق الشرك وغايته في إنتاج المعرفة؛ فكذا هناك طريقتان لإنتاج المعرفة: إنتاجها داخل حدود تقليد معرفي مُترسِّخ، أو إنتاجها خارج التقاليد المعروفة تأسيسا لتقليد جديد.
في الطريقة الأولى تكون المعرفة "الجديدة" غالبا مجرد اجترار انتقائي للمسلَّمات القديمة، التي أنتجها النسق المترسِّخ على مدى تاريخه؛ وإعادة تلفيق للجزئيات المألوفة حتى تُلائم الواقع المتغيِّر. ويكون المنتِج هنا مقيدا ليس بأفق منهجي وأيديولوجي فحسب؛ بل بمقدَّساتٍ بشرية حقيقية: مقولات السابقين التي لا يتم التعامل معها كتأويلات للوحي أو قراءات للوجود فحسب، بل بوصفها امتدادات لهما؛ لاهوت حقيقي لا يمكن فصله عن الأصل إلا بجراحات مؤلمة. وفي هذا الإطار تظل المعرفة غالبا نظرية "أكاديمية" مُسطَّحة، وحركتها أفقيَّة دائريَّة لا تؤرِّق الواقع ولا تُحركه؛ أو قد ترتكِسُ أكثر إلى أن تصير مجرَّد تأصيل نظري للواقع، ومحاولة لإدارته كما هو بغير الانشغال بهمِّ ترقّيه، ولا حتى بوجهته التي يولي وجهه إليها. إذ هي ليست معرفة مؤرَّق مكلوم، بل معرفة مُتكلِّس قاعِد؛ يكتفي بالتدوير العقلي البارد لـ"القليل" المتاح.
أما في الطريقة الثانية؛ فغالبا ما تكون المعرفة "الجديدة" متحررة من قيود التقليد القديم، وقادرة على اختبار المسلَّمات السالِفة - أو إعادة صياغتها - في ضوء مركز متعيِّن أو نص مؤسس. وقد يتأثر مُنتج المعرفة في هذه الحال بمناهج السابقين وآرائهم، وقد تنضح في إنتاجه بعض أيديولوجياتهم وتصوراتهم، وأوهامهم؛ من غير أن يتقيد بها، أو يُسجَن في لوازمها وحتمياتها. وهذا بديهي مفهوم؛ إذ تشقَّقت معرفته بموضوعه من خلال ما تلقاه من هذه المعارف "القديمة" المكرورة. لكنَّه وإن كان يبني على بعضها، ويتقاطع مع جمهرة منها، ويُفيد من طريقتها في طرح الأسئلة والبحث عن إجابات؛ إلا أنه يبحث عن إجابته الخاصة المركبة المتعينة، ولا ينتقي إجابة جاهزة ليتبناها.
لذا، فإن هذا النوع من المعرفة لا ينتج إلا من خلال المكابدة، وفي أتون المعاناة الحقيقية؛ فهي ليست معرفة نظرية "أكاديمية" باردة، بل محاولة للإجابة عن أسئلة "وجودية" تشغل الباحث أو "المنتج" الفرد، وهي الإجابات التي يئن كيانه تحت وطأة حاجته إليها؛ لتطمئن روحه، وتستقيم حركته وتتحسن كفاءتها. إنها معرفة رأسيَّة يُراد منها أن تصله بالله، وأن تحرث الواقع بمقدمها الحاد، الذي حمل المنتِج إلى السماء؛ لتُعيد صياغة الوجود بأكمله بعد أن صاغت مُنتجها روحا وجسدا. إنها معرفة مُقلِقة تعيد ضبط بوصلة المجتمع؛ لتُعيد وجهه مرة أخرى إلى الوجهة التي ارتضاها خالقه سبحانه.
ولذلك، فإن النوع الأول من المعرفة أفقي سطحي يُقدِّس التراكم، فهو سكوني مرتبط بالمكان؛ هدفه "صناعة حضارة" مستقرة ومراكمة ما يُفضي به إلى الرفاه. أما النوع الثاني فهو لا يُبالي كثيرا بالتراكم، ولا يهدره إلا إن أعاق حركته الأفقيَّة المعراجيَّة، التي تحرث الوجود؛ إذ هي معرفة لا تكتمل إلا بالحركة/ المكابدة، ولا تهدف لصناعة "حضارة"؛ بل تهدف إلى تيسير مهام الاستخلاف، وحُسن تعبيد الإنسان لربه الحق سبحانه. إن نوع المعرفة، وطريقة إنتاجها وتحصيلها، وطريقة التعاطي معها، وأثرها على الإنسان وعلى الوجود.. إلخ؛ كل ذلك لا يكشف لنا بوضوح عن النمط الفردي للحركة الإنسانية فحسب، بل عن وجهة المجتمع ومستقبله ومآله. لهذا، فإن طريقة إنتاج المعرفة وثيقة الصلة كذلك بوجهتها وبيئتها، ليس بوصفها تعبيرا عما هو كائن فحسب؛ بل لأنها أول السعي الحركي إلى ما ينبغي أن يكون.. فلا سلوك بغيرها.
__________
(1) يُمكن للقارئ الاطلاع على نموذج حديث في إنتاج المعرفة النقدية في السياق التوحيدي عند عبد الوهاب المسيري، وهو ما رسمنا بعض ملامحه في مقالنا، على هذا الموقع نفسه؛ والمعنون:
المسيري وإنتاج المعرفة.