قضايا وآراء

سوريا.. الصراع على العشائر

حسين عبد العزيز
1300x600
1300x600

لم تعد القبيلة والعشيرة في المجتمعات العربية معطى تاريخيا ثابتا ولا وحدات متجانسة في سلوكها الاجتماعي وهوياتها السياسية، بعدما انفصلت البنى الاجتماعية-الاقتصادية-لسياسية فيها، إما بفعل التحديث أو بفعل التغيرات الديمغرافية نتيجة الهجرة الكبيرة من الريف إلى المدينة التي بدأت في سبعينيات القرن الماضي.

 

هشاشة العشيرة

لم يبق من العشائر سوى زعامات وجاهية شكلت في مرحلة البعث أدوارا وظيفية في خدمة السلطة، لا بسبب قوتها، بل للزج بها في صراعات داخلية خدمة للنظام.

ومع اندلاع الثورة، سرعان ما ظهر الضعف البنيوي في العشائر من خلال انشقاق جرى على مستويين:

الأول، على مستوى العشائر بين من آثر الوقوف إلى جانب النظام وبين من قرر الوقوف إلى جانب الثورة.

الثاني، كان على مستوى العشيرة نفسها، حيث جرت فيها انشقاقات بين الجيل القديم الذي فضل بقاء الوضع على ما هو عليه والجيل الجديد الذي آمن بالثورة.

وكان من نتيجة ذلك أن ظهرت هشاشة العشيرة كبنية ومنظومة متماسكة، فأهملت من قبل النظام بقدر ما أهملت من قبل المعارضة السياسية والعسكرية، بسبب بعدها الجغرافي ثم بسبب هيمنة "داعش" على مناطقهم وسيطرة "الوحدات الكردية" بعدها. 

 

ازداد الاهتمام بالعشائر بعد تصريحات الرئيس الأمريكي بالانسحاب من سوريا ثم سحب الولايات المتحدة لقواتها من المنطقة الواقعة بين تل أبيض ورأس العين على الحدود التركية

 



يلاحظ من خلال الاصطفافات العشائرية أنها تجري وفق الحسابات الضيقة وظروف الصراع، فمثلا في محافظة الرقة ذات الهيمنة الكردية، تحالفت عشيرتا العفادلة والولدة مع "الإدارة الذاتية" بعدما كانت العفادلة تحتضن الجيش الحر، أما العشائر الأخرى مثل المشهور، جيس، الحليسات، بوحميد، فتتراوح بين ميلتي الأكراد والنظام. 

وكذلك الأمر مع عشائر العكيدات والبكارة والغير التي تحالفت في دير الزور مع "قوات سوريا الديمقراطية" بينما أبقت على قنوات اتصال مع النظام، والأمر ذاته ينطبق على الحسكة، حيث تحالفت عشائر طي، الجبور، حرب مع "الإدارة" الذاتية في وقت لم تقطع علاقاتها مع النظام السوري. 

بالمقابل، اتجهت عشائر أخرى إلى التحالف مع المعارضة وتركيا في المناطق التي تسيطر عليها الأخيرة، مثل عشائر بني خالد، النعيم وغيرها.

 

اهتمام إقليمي مفاجئ بالعشائر

 
أخذ الاهتمام المحلي والإقليمي والدولي يزداد تجاه العشائر بعد انتهاء المعارك الكبرى، وبقاء مناطق التنازع والنفوذ (ديرالزور، الحسكة، الرقة) قائمة.

ولما كان من الصعب على أي طرف من الأطراف المتنازعة تغيير الواقع الميداني بقوة السلاح، بدأت هذه الأطراف تولي اهتمامها للعشائر على أمل تشكيل قوة اجتماعية عسكرية قادرة على رفع تكلفة وجود الطرف الثاني.

وازداد الاهتمام بالعشائر بعد تصريحات الرئيس الأمريكي بالانسحاب من سوريا ثم سحب الولايات المتحدة لقواتها من المنطقة الواقعة بين تل أبيض ورأس العين على الحدود التركية: النظام السوري عقد اجتماعين مع العشائر، الأول في كانون الثاني (يناير) من العام الماضي في منطقة أثريا بريف الرقة، والثاني في تموز (يوليو) من العام الماضي داخل قاعدة حميميم العسكرية، في حين عُقد اجتماع نهاية كانون الأول (ديسمبر) عام 2017 في اسطنبول سمي بـ "مؤتمر العشائر والقبائل السورية"، ليعقبه اجتماع آخر بعد عام تحت رعاية تركية لمجموعة كبيرة من زعماء العشائر العربية والتركمانية والكردية والسريانية في قرية سجو قرب مدينة اعزاز الحدودية بريف حلب الشمالي، وانتهى الاجتماع بتشكيل "المجلس الأعلى للقبائل والعشائر السورية" و "مجلس الأعيان".

شكل الاتفاق الأمريكي مع "قوات سوريا الديمقراطية" حول النفط ثم اغتيال مطشر الهفل، أحد أبرز شيوخ عشيرة العكيدات (الحسون، الشحيل، الهفل، الشويط، البورحمة، البوحسن، القرعان، الشعيطات، الدميم، البو الخابور، البوليل) نقطة تأسيسية سيكون لها تبعات مستقبلية على دور العشائر في المنطقة الشمالية الشرقية من سوريا.

أولى نتائج هذا الاغتيال كان إصدار العكيدات بيانا أعلنت فيه عن تشكيل مجلسين:

ـ مجلس سياسي هدفه بناء حضور سياسي للعشيرة يكون مقدمة لمجلس سياسي أوسع يضم عشائر أخرى.

ـ مجلس عسكري "جيش العكيدات" يترأسه أسد الهفل، هدفه تحقيق التحرير الشامل للأراضي السورية بالتنسيق مع "الجيش السوري" والقضاء على "الإرهاب".

 

واقع العشائر اليوم في سوريا هو جزء لا يتجزأ من الواقع السوري في مجمله، حيث المصالح الضيقة تغلبت على المصالح الواسعة

 



أهمية التشكيل العسكري لعشيرة العكيدات لا تكمن في قوته وقدرته على إحداث تغيير في خارطة القوى العسكرية في هذه المنطقة، ولكن أهميته تكمن في أنه قد يشكل حجر أساس لتحالف عشائري أوسع مع النظام السوري، بدأت ملامحه الأولية بالظهور مع دعوة قبيلة الشرابيين أبناءها وكافة القبائل إلى "مقاطعة قسد والتوحد لمقاومة الأمريكيين القتلة وأذنابهم في سوريا"، وبيان عشيرة البوعاصي في ريف القامشلي الذي يؤكد وقوف العشيرة إلى جانب العكيدات والبكارة.

الإقصاء السياسي والاقتصادي والاجتماعي للعشائر يفعل فعله هنا، خصوصا تلك العشائر التي حدثت فيها تغيرات ضمن بنيتها مع جهود النظام وإيران و"قسد" كل لأهدافه في تغيير الهوية العشائرية والعلاقات الوشائجية في ما بينها من جهة، وسماح الولايات المتحدة للمكون الكردي أن يعلو على العشائر العربية السنية ورفض دمجها في مشروع "الإدارة الذاتية" الكردية من جهة أخرى.

 

حسابات ضيقة

لكن، واقع العشائر اليوم في سوريا هو جزء لا يتجزأ من الواقع السوري في مجمله، حيث المصالح الضيقة تغلبت على المصالح الواسعة، فقد أعلن شيوخ عشائر في محافظة الرقة رفضهم القاطع لسياسة النظام السوري والقوات الموالية لها، ولإنشاء مجلسين سياسي وعسكري من عشيرة العكيدات، في ما بدا أن جدلية الريف والمدينة لعبت دورها هنا عندما هاجم رئيس "مجلس دير الزور العسكري" أحمد أبو خولة ـ من عشيرة البكيّر إحدى عشائر قبيلة العكيدات ـ العشائر في الريف وقلل من قدرتها على حكم مناطقها: "الآن الشوايا تريد أن تدير دولة".

تصريحات سرعان ما استتبعت باجتماع عشائري نظمه قائد "مجلس دير الزور العسكري" أحمد أبو خولة بحضور عدد من أبناء المنطقة الموجودين ضمن المجالس المحلية والأهلية، في مؤشر واضح على دور أمريكي.

خرج الاجتماع ببيان مضاد لبيان العكيدات يطالب فيه التحالف الدولي إخراج القوات الإيرانية والروسية والنظام السوري من القرى التي تسيطر عليها في ريف دير الزور.

وتكشف هذه المواقف المتغيرة للعشائر مدى اختلاف المصالح في ما بينها،  ومدى تأثير القوى الخارجية في مواقفها.

وكان لغياب الفرص السياسية أولا ولتردي الوضع الاقتصادي ثانيا، ولتهديدات متغيرة ثالثا، الدور الرئيسي في تحديد مواقف العشائر، وجعلها تنقسم بين تحالفات محلية وأخرى إقليمية: عشائر تحالفت مع المعارضة وتركيا، وعشائر تحالفت مع النظام وإيران، وأخرى تحالف مع "قسد" والأمريكيين.

*كاتب وإعلامي سوري

التعليقات (0)