وصل وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان إلى
لبنان مساء الأربعاء، ولكنه وصل قبل ذلك عندما صرح في مجلس الشيوخ الفرنسي بالآتي: "هناك اليوم خطر انهيار. يجب على السلطات اللبنانية أن تستعيد زمام الأمور، وأسمح لنفسي أن أقول لأصدقائنا اللبنانيين: نحن حقا مستعدّون لمساعدتكم، لكن ساعدونا على مساعدتكم".
لقد كان كلام ناظر الخارجية الفرنسية واضح المعالم، وفي طياته دور
فرنسا الأزلي مع لبنان منذ نشأته في 1920 على يد الفرنسيين أنفسهم من قصر الصنوبر.. هو الدور الفرنسي في الحفاظ على لبنان سيدا مستقلا ذا اقتصاد حر وفضاء واسع للرأي والرأي الآخر.. اقتصاده حر بمبادرة فردية مكفولة ومضمونة.. لبنان القريب من العرب المعتدلين والغرب، وليس ساحة لأحد.
ومن هنا كانت الزيارة للصرح البطريركي ودعم موقف البطرك الداعي إلى الحياد، في ظل تجاذب حاد حول المفهوم صيغة وصياغة وتطبيقا، علما أن الأطراف اللبنانية الفاعلة تركت الباب مفتوحا على كل الاحتمالات في هذا الإطار.
لقد صرح الوزير الفرنسي من على أدراج الخارجية اللبنانية وعلى مسمع وزير الخارجية اللبناني، بلغة التأنيب على التأخير في الإصلاحات، وعدم قدرة الحكومة وفشلها في الإنجاز ضمن الوقت المحدد الذي يضرب كالسيف في زمن لا يحتمل لبنان، دولة وشعبا واقتصادا، ترف إضاعة الوقت والمماحكات من هنا وهناك.
لقد حمل لودريان تفاصيل وتفاسير كلماته السابقة بخارطة طريق؛ عنوانها الإصلاحات في الإدارة والحوكمة وضبط القطاع العام ووقف الهدر.
لقد فسر لودريان باسم المجتمع الدولي الحاجة إلى إصلاحات بنيوية تشمل كل المرافق العامة، ووقف التهريب والتهرب الضريبي والجمركي، تحدث عن إصلاح في صميم ملف الكهرباء ذي الـ45 مليار دولار إنفاقا؛ ولا كهرباء للبنانيين الذين يرزحون تحت العتمة!!
لقد قال لودريان بلغة الواثق؛ إن فرنسا لن تترك لبنان يغرق.. هذا البلد الفرنكفوني الرائد في دعم الفرنسية لغة وحضارة وانتشارا.
لكن هل أتى الوزير الفرنسي بجديد؟ بالشكل والمضمون المعلن لم يحمل لودريان سوى الكلمات الرنانة واستعادة كلمات السفير بيار دوكان، الموفد السابق للإليزيه، حينما انتقد المسؤولين اللبنانيين في عقر دارهم.
رسائل دوكان كانت كثيرة، وما زالت مع لودوريان اللغة ذاتها، والأرجح أكثر مما توقع البعض. الموفد الفرنسي وضع نقاط الإصلاح على حروف الخلل، وتحدث عن علاجات بنيوية يفترض الإقدام عليها بعيدا عن الإطار الشكلي المعتمد حتى الساعة، ما يعني عمليا أن كل المقاربات اللبنانية لم تلامس الهدف المنشود من أجل إخراج لبنان من الأزمة، وإذا بقيت السياسات المعتمدة على حالها، فإن لبنان سيكون عاجزا عن تجاوزها.
وزاد دوكان سابقا وأكد لودريان لاحقا على كلامه؛ بأن على الدولة اللبنانية أن تعرف بأن "مؤتمر سيدر" ليس صندوق هبات أو قروض، "بل إنه صندوق للمشاركة في الاستثمارات في مشاريع مفيدة، وليس أي مشروع، بل المشاريع التي نقتنع نحن بها"، على أن تكون هذه المشاريع بالشراكة بين القطاعين العام والخاص، حيث الحديث عن 11.7 مليار دولار.
ولكن مع كل الحديث المعلن، أين
حزب الله من البحث، وهو الدينامو الأساسي والمحرك القادر واللاعب الأول في الحياة السياسية في لبنان برأي الكثيرين؟ فأين يقف من الزائر الفرنسي بالشكل ومن ورائه الأمريكي حتما؟ علما أنه يُهمس في الإعلام أنّ لقاء قد يجمع وزير الخارجية الفرنسي مع وفد رفيع من حزب بالله، حيث سيقدّم عرضا باسم المجتمع الدولي تقبله الولايات المتحدة.
ونظرا إلى حالة الترقب التي تحكم الإقليم، كشفت المصادر نفسها أنّ الفرنسيين يتوقعون أن يرفض حزب الله العرض، ومن خلفه طهران التي صبرت كثيرا بانتظار سيد جديد في البيت الأبيض، وتاليا لا حلول في الأفق ما دامت مشاكل الإقليم المتشعبة حاضرة في صلب الساحة السياسية والاقتصادية بلبنان، من عقوبات أمريكا المفروضة على طهران، وصولا إلى قانون قيصر الذي يبدو أنه سيف مسلط لخنق الاقتصاد اللبناني، ومعه العقوبات التي تحضر عبر قانون ماغتنسكي على الكثير من الشخصيات اللبنانية الدائرة في فلك طهران.
وفي تغطيتها لزيارة سيد الدبلوماسية الفرنسية، نشرت صحيفة "لو موند" تقريرا عنونته لودريان بمواجهة الصداع اللبناني، بما يشي بأنّ الآمال المعلقة على جولة لودريان اللبنانية لن تُترجم على أرض الواقع. إذن، سيكون الغطاء دعم المدارس الفرانكوفونية ودعوة الحكومة إلى إجراء إصلاحات، إما في العمق فلا خرق في جدار الأزمة.
بمعنى آخر، ورغم الحديث عن رزمة دعم من الرئيس ماكرون، إلا أن الواضح أن لا حديث اقتصاديا في الزيارة، حيث ظهر من شكل الوفد الفرنسي المرافق، وتاليا المهم فرنسيا الإصلاحات ثم الإصلاحات، وكأني بالزيارة الفرنسية المشكورة أداة لتبريد الأجواء في الساحة اللبنانية، وبداية أرضية لتهدئة في المنطقة بين واشنطن وطهران؛ تبدأ من لبنان وتستكمل في زيارة دولة الرئيس الكاظمي لإيران، والباقية تأتي بفعل تطور الأحداث التي تتسارع في عدة نقاط ساخنة في المنطقة؛ آخرها في غارة دمشق في صحنايا وتوابعها اللبنانية، وانعكاساتها على الحدود بين لبنان وفلسطين المحتلة في أرض القرار الأممي 1701؛ الذي يدور الأمريكي لأجله مع الحديث عن التمديد للقوات الدولية اليونيفيل، والرغبة الأمريكية الملحة في توسيع صلاحيات هذه القوات وتوسيع مهامها في ورقة ضغط على لبنان الدولة ومن خلفه حزب الله، وما زيارة السفيرة الأمريكية إلى اليونيفيل عن تلكم الغاية ببعيد.
خلاصة واحدة يمكن استنتاجها من زيارة لودوريان بعد جولته على الرؤساء والوزراء المعنيين: أيها المسؤولون استفيقوا.. إصلاحاتكم شكلية وإجراءاتكم ليست على قدر المطلوب ولا تتلاءم مع الأجندة الموضوعة دوليا، صوّبوا أداءكم وخذوا في الاعتبار النصائح الدولية، فلبنان موضوع تحت المجهر الدولي، ولدى الجهات المانحة تشكيك قوي؛ ارتفع منسوبه في الأسابيع والأشهر الأخيرة، ولو أنها لا تزال جاهزة لتقديم الدعم.. فاحذروا اللعب في الوقت الضائع.