كتب علي المقداد يوم 8 أيار/ مايو 2020م مقالا على موقع (
www.devex.com)، تحت عنوان: "مستقبل العاملين في المجال الإنساني بعد كوفيد-19". ولأن العمل الإنساني أو الخيري بات معولما في مقوماته وهمومه ومشاكله وتشريعاته، فإن ما جاء في المقال الذي يتكون من خمس نقاط يمثل إلى حد ما حالة
العمل الخيري العربي، لذلك نستعرض هنا، بشكل سريع، وبتصرف، ما جاء في المقال.
سببت الجائحة في إحداث تحول ثقافي وعملي كبير في القطاع الإنساني. فقد أضافت صعوبات إضافية في وصول المساعدات الإنسانية، وصعوبة في الاتصال بالسكان الضعفاء، وفي القدرة التشغيلية، وأدت إلى قيود تتعلق بالسفر للعديد من المقاطعات.
ومع ذلك، فمن المرجح أن تستمر أعداد العاملين في المجال الإنساني في الزيادة أثناء وبعد أزمة الجائحة؛ حيث سيتم إنشاء جهات فاعلة إنسانية جديدة، وسيتم دمج قطاعات جديدة في النظام البيئي الإنساني، وسيدخل عدد متزايد من الناس للعمل في المجال الإنساني. سيظل معظمهم، سواء من الموظفين أم المتطوعين، يعملون في بلدانهم الأصلية، في حين ستستمر وظائف المغتربين (الأجانب) في الانخفاض بسبب زيادة قدرة الموظفين الوطنيين على القيادة، ومحدودية الوصول إلى بعض المناطق، وتوطين الأدوار الإدارية بمستوياتها المختلفة لبعض
المنظمات.
عندما يتعلق الأمر بالعاملين في المجال الإنساني في المستقبل، يجب أن ننظر إلى خمس قضايا مهمة:
أولا- التأميم: ستحتاج المنظمات غير الحكومية الدولية إلى تغيير أسلوب عملها الحالي، والعمل على تطوير نظامها في أقرب وقت، وستجد هذه المنظمات نفسها أمام تركيز مزدوج: تقديم المساعدة الملحة، وتغيير أسلوب العمل، حيث ستسعى العديد من الوكالات الدولية، بوعي وحرص، إلى الوكالات (الجمعيات) المحلية للقيام بأنشطة مهمة، وستولي العديد من المنظمات الدولية غير الحكومية في النهاية اهتماما إضافيا لأهمية تأميم التدخلات الخارجية وتوطينها.
وستكون التدخلات المجتمعية المحلية وتمكين الموظفين المحليين؛ من بين الموضوعات الرئيسة للتحول الثقافي والتشغيلي الجديد الذي سببه الوباء.
سنرى أدوارا إضافية للمنظمات غير الحكومية المحلية في تقديم الخدمات، وسنرى المزيد من الموظفين المحليين كمديري برامج ومديري مواقع ومنسقين وكبار مسؤولين في المناصب القيادية داخل المنظمات غير الحكومية الدولية. ستحتاج هذه المنظمات إلى أن تكون استباقية في متابعة التغيير الهيكلي الخاص بها لممارسة القيادة، واستكشاف طرق جديدة للعمل مع الجهات الفاعلة الإنسانية المختلفة.
يمكن للمنظمات غير الحكومية الدولية أن تكون مفيدة في دفع النظام البيئي الإنساني للالتزام بتعهدات التوطين، وبرمجة النقد، وطرق العمل الشبكية التي جاءت في (مؤتمر القمة العالمي للعمل الإنساني- إسطنبول 2016).
لكن السؤال هو: هل تصبح الشراكة مع المنظمات غير الحكومية المحلية وتعيين موظفين محليين في وظائف عليا؛ شرطا للعمل في المنظمات غير الحكومية الدولية، أم أن هذا الاتجاه سيواجه تحديات في قضايا الشفافية والفعالية؟
ثانيا- الاحتراف: سيحتاج العامل الإنساني بعد الجائحة إلى التعلم والتدريب الفني والخبرة المهنية. سيكون مسارا مهنيا مخططا له ويتم تنفيذه بعناية، مع تغير عمل بعض الجهات الفاعلة الإنسانية، وستتغير الموارد البشرية التي يحتاجونها أيضا. وبما أن المنظمات غير الحكومية الوطنية تمول بشكل متزايد بشكل مباشر، فقد تتطلب تدفق الموارد لإدارة أعباء المساءلة والامتثال الإضافية.
وبالمثل، نظرا لأن المنظمات غير الحكومية الدولية تقلل من معدل التنفيذ المباشر لها، يمكن أن تتحول ملفات موظفيها من الخبرة التشغيلية إلى جمع الأموال، والدعم الفني، والتحليل، والمناصرة، ومناصب القيادة الاستراتيجية. ستستمر بعض الوكالات في تنفيذ المشاريع مباشرة بدون شركاء محليين، ولكن هذا لا يعني أنها لن تحتاج إلى موظفين محليين على مستويات مختلفة من الهيكل التنظيمي.
ثالثا- الجندر: في جميع المجالات، سيكون تقليص الفجوة بين الجنسين بطيئا، ومن غير المرجح تحقيق المساواة الحقيقية في مكان العمل. قطاع العمل الإنساني في الغالب من الإناث في قوته العاملة. وقد قال الأمين العام السابق لمنظمة العفو الدولية "كومي نايدو" إن النساء يشغلن حتى 70 في المئة من جميع وظائف المنظمات غير الحكومية.
ومع ذلك، ففي المستويات الإدارية العليا، فإن غالبية صناع القرار هم من الرجال، مع عدم وجود التشريعات التي تقدم الحماية الواجبة للنساء مقارنة بالرجال، لذلك تظهر إشكالية الحماية من التحرش وغيرها من الممارسات المتعلقة بالنساء دون الرجال.
ستظل المساواة بين الجنسين أحد المجالات الرئيسية المثيرة للقلق، لا سيما عندما يتعلق الأمر بإدارة الموارد البشرية. وهذا سيتطلب حتما الدعم من القيادة العليا داخل الوكالات لاتخاذ إجراءات جادة لدفع التغيير.
رابعا- التدريب: التدريب غير المدفوع و"
التطوع": التدريب غير مدفوع الأجر هو الجدل الذي يدور موضوعه حول "التطوع"، الذي جذب الكثير من الاهتمام والنقاش. دانيال أ. جوتنتاج، في ورقة بحثية له عام 2009 (في قسم الجغرافيا والإدارة البيئية بجامعة واترلو)، عرّف "المتطوع" بأنه: أي شخص يشارك في العمل التطوعي "إذا استمر هذا العمل أقل من عام".
جادل النقاد في أن هذه الممارسة (التطوعية) تضر أكثر مما تنفع، وهي تمثل "تهنئة ذاتية وخادعة"، وتعزز السير الذاتية للمتطوعين بدلا من تخفيف الفقر والمعاناة حقا، وتقوض اقتصادات العمالة المحلية، وتسمح للأجانب بالقيام بوظائف غير مؤهلين للقيام بها في بلدانهم الأصلية.
سوف تبطئ الجائحة والغضب العام تجاه التطوع، ولكن من المرجح أن تستمر المنظمات غير الحكومية الأصغر التي تعتمد على هذه الممارسة (التطوعية) في استخدام المتطوعين بدون أجر، وإن كان ذلك مع مزيد من السلطة التقديرية تجاه التعامل معهم.
لن يوفر الوضع الاقتصادي واعتبارات السلامة بعد الجائحة فرصا للأشخاص المهتمين ببرامج تدريب غير مدفوعة الأجر للسفر إلى الخارج، لدعم برامج البعثات الوطنية. لن تكون المنظمات الدولية غير الحكومية قادرة على تحمل مخاطر تقديم مثل هذه الفرص، ولن يكون الناس قادرين على تحمل تكاليف العمل بدون أجر. التدريب الداخلي والعمل التطوعي بدون أجر سيزداد فقط على المستوى المحلي، لكن العمل التطوعي الدولي سيختفي ببطء.
خامسا- السلامة والأمن: سيستمر العنف في استهداف العاملين في المجال الإنساني، وستواصل الوكالات الدولية إدارة انعدام الأمن، على حساب الوصول إلى الفئات السكانية الضعيفة في كثير من الأحيان. ستشكل الأمراض والعدوى خطرا وتحديا آخر بالنسبة للعاملين في مجال الإغاثة، خاصة أولئك الذين هم على الخط الأمامي.
يمكن للطرق الجديدة في العمل وتطوير الحلول التكنولوجية، توفير الحماية للعاملين في المجال الإنساني والوصول إلى الأشخاص الأكثر احتياجا، بأن تسمح للوكالات بتوفير حماية أفضل لموظفيها، والإبلاغ عن الحوادث، وفي النهاية ضمان استمرارية البرمجة، لا سيما في المناطق التي تعاني من الصراع أو تفشي المرض.
المستقبل ليس واضحا، وهناك فرصة هائلة هنا. ربما سيتم تسريع الاتجاه طويل الأمد نحو التوطين؛ ربما سيتم تكثيف الخطوة الأخيرة للتحويلات النقدية الإنسانية والمساعدات المباشرة.
أثرت وتؤثر الجائحة على أشياء كثيرة من حولنا، وستؤثر أيضا على الطريقة التي نؤدي بها عملنا الإنساني وتنفيذ برامجنا. إذا انتظرت المنظمات غير الحكومية الدولية هيكل الحوافز لتغيير أو تأجيل التعديلات الضرورية على مناهجها، فلن تتمكن من أداء دورها.
استدراك:
شخصيا أرى أن التحديات القادمة ستؤثر جديا على مستوى التمويل، وعلى آلية الوصول إلى المستفيدين الذين تضاعفت أعدادهم. وأصبحت عملية دراسة الأوليات في تقديم فئة معينة على غيرها أيضا محط إعادة نظر مستمرة، ودخول شرائح جديدة في الفئة المستفيدة قد لا تنطبق عليها المواصفات التقليدية، وارتقاء فكرة التطوع لاستهداف فئة كانت مستنكفة لأسباب مادية، والآن بات إقناعها بالدخول والتطوع من باب تنمية الشعور بالواجب والانسانية ملحا. وهذا طبعا بحاجة إلى خطة عمل تخصصية قائمة على المهنية الرشيدة الشفافة وإجادة خطاب الإقناع.
إلا أنه مقابل الإحباط العام السائد، فإن فرص الانتشار والصعود والاستمرار في العالم العربي كبيرة جدا. فالمال موجود، وأواصر الشعور والتقارب موجودة، والحال الصعب معلوم للجميع، يبقى بحث أسباب التباعد بين الباذل والمستلم، وإيجاد طريقة تكسر حاجز الخوف والترقب والشك.
وحل هذا الإشكال يقع على عاتق القائمين على العمل الخيري بالذات، فعليهم توسيع دوائر التشاور وتشارك الأفكار مع الآخرين، والتخلي عن دكتاتورية فكرتي الثقة والأجر من جهة، وتبسيط مفهوم القدر والتوكل من جهة أخرى، والدخول بجدية إلى عقول الباحثين عن الحلول ليعم الخير والأمن الجميع.
إن تأطير العمل الخيري ضمن نظام قانوني (التشريع، نظام داخلي، العاملين، والعمل ذاته) معلن مبني على براغماتية تراكمت من خلال تجارب مجموع العاملين في هذا المجال، ومن اقتراحات المعنيين والمهتمين، سيكون سببا في الاستمرار والنمو والتقدم، واحتلال هذا القطاع (القطاع الثالث) أهمية قد تفوق القطاعين (العام والخاص) من حيث توفير الأمن الغذائي والاجتماعي والتربوي والصحي والنفسي لعدد كبير ممن دخلوا كهف الاحتياج. وهل المجتمع إلا هذه الفروع من الأمن؟!