كنت قد أشرت وبشكل مبكر إلى دولة المخلوع مبارك بأنها "دولة كأن" لاعتبارات شتى؛ تتعلق بإيهام الآخرين بأن هناك دولة حقيقية ذات مؤسسات راسخة، وأكدنا من قبل أن شأن الدولة تقوم باستعراض الأمور التي تبدو في ظاهرها أركان دولة، إلا أنها في حقيقة الأمر إنما تعبر عن جوهر فكرة المعرض والضرب الذي تقوم به بالتمثيل أو الأداء التمثيلي..
بين فكرة المعرض والتمثيل تولد دولة كأن.. كأن لدينا دولة وكأن لدينا مؤسسات وكأن لدنيا برلمان وكأن لدنيا حكومة.. وكأن وكأن. إنها حالة من الزيف يحاول النظام إبرازها في ثوب وكأنها الدولة الحقيقية التي تقوم بجوهر وظائفها وحقائق أدوارها.
بدا ذلك واضحا ومهما حينما أكدنا ذلك في شكل مبكر فيما قبل ثورة يناير، لننتقد هذا النظام وطريقته "الديكورية" في التعامل مع المظاهر المؤسسية. دولة الزينة ومؤسسات سد الخانة هي شعار السلطة المستبدة حينما تريد أن تمرر هذا الشكل لدولة كأن لترسيخ استبدادها وتمكين سياسات طغيانها، وهو أمر أدى في النهاية إلى انسداد الأفق السياسي وإقامة انتخابات شديدة الهزلية في العام 2010. وحينما حاول البعض أن يؤكد بالنظام أن ذلك أمر غير مأمون العواقب وبدا لهم يتحدثون عن مؤسسات موازية في ما سمي في ذلك الوقت "البرلمان الموازي"/ فلم يكن من ذلك المخلوع استهتارا واستخفافا إلا أن قال مقولته الشهيرة "خليهم يتسلوا"؛ وقامت من بعدها عليه ثورة.
هكذا يُنظر إلى الحياة السياسية، وهكذا يتم التزييف حال السياسية وحال الدولة لمصلحة سلطة فاسدة مستبدة. حال
المواطنة في هذه الدولة لم تكن إلا مواطنة كأن تتناسب معها وتليق بها.. المواطن في النهاية هو المواطن الأمي والمواطن المتاهة والمواطن المستخف به. ومن هنا فإن الحزب الوطني، الحزب الأوحد آنذاك والذي سيطر على الحياة السياسية من خلال شلة من المنتفعين، قد أقام مؤتمرا حول
مصر المستقبل والإشارة إلى دور الشباب، ولكن في حقيقة الأمر لم يكن ذلك إلا إشارة للتمهيد لعملية توريث مبارك المخلوع لابنه المخدوع "جمال مبارك".
وأتذكر هنا أن البعض قد تحدث وعلى استحياء عن حقوق المواطنة، وأشار من طرف خفي بتساؤل: أين تلك الحقوق؟ وكان الرد جاهزا حول ما يمكن تسميته "المواطنة الافتراضية"، أي أن على كل مواطن حتى يعرف أنه يتمتع بمزيد من الحقوق؛ وأن تلك الحقوق قد فاقت العشرين حقا عدا ونقدا، وكما قال صاحب الرد آنذاك: "إذا أراد أحد منكم أن يتحقق من تلك الحقوق فعليه أن يدخل على موقع الحزب الوطني حتى يرى هذه الحقوق مقررة مكتوبة"، وكأن الحقوق تكفي فيها الكتابة؛ ولا ترتبط بسياسيات ولا ترتبط بوظائف للدولة ولا خدمات منها ولا ممارسات من المواطن، بل عليه فقط حتى يشعر بالمواطنة أن يدخل مستبشرا مسرورا إلى موقع الحزب الوطني حتى يرى هذه الحقوق بعينيه على الموقع، فيكون ذلك إعمالا للمواطنة، مواطنة كأن مواطنة افتراضية.
هذا كان موجزا حول "دولة كأن"؛ فماذا عن "دولة الضد"؟! دولة الضد في حقيقة الأمر دولة مغتصبة مختطفة بسلطاتها ومؤسساتها، حتى "مسألة الشرعنة" هي "شرعنة زائفة باطلة" تضفي حقا بالإكراه على غصب بالإكراه. فمتى كان الغصب حقا، وتزوير الإرادة وإكراهها جوهرا ورضا؟
في حقيقة الأمر أن عناصر "دولة الضد" تتمثل في عصابة متحكمة ومؤسسات مختطفة؛ تقوم بخدمة هؤلاء الذين اختطفوها تحت التهديد. وضمن هؤلاء أيضا الذين قاموا بأدوار متواطئة بالصمت على استبداد السلطة واستمرارها في غيها وطغيانها. وبدت تلك المؤسسات تقوم بضد وظائفها، لا وظائفها المقررة الحقيقية والمعتبرة التي ترتبط لزوما بمعنى الدولة ووظائفها الجوهرية.
فإذا كانت "دولة كأن" قد زيفت المؤسسات؛ فإن دولة الضد من خلال سلطة عسكرية مستبدة قد اختطفتها جميعا ووجهتها لخدمتها بالإكراه والقسر وتحت تهديد السلاح؛ ضمن نظام انقلابي تستفيد منه عصابة محددة العدد ومحدودة الأفق، هي التي تشكل عالم المصالح وشبكات
الفساد ومؤسسات
الاستبداد على أعينها، فصارت مصر دولة الخوف كسجن كبير، "مصر المحبوسة".
وعن وزارة الخوف وصناعته المسماة بالداخلية المهيمنة على كل شيء بالداخل؛ حدث ولا حرج، فتعتبر الشرطة فيها في خدمة نفسها، لا تقوم برعاية الأمن أو حماية المواطنين، بل هي في الحقيقة تروعهم وتستعبدهم وتهينهم، وفي النهاية قد تقوم بقتلهم أو باعتقالهم وتعذيبهم في السجون، أو اغتصابهم وانتهاك أعراضهم.. عمليات لا يمكن تصور مداها إلا أن تكون مؤشرا على الترويع والتفزيع.
إنها وزارة الضد حينما تقوم على عمل ممنهج لتضييع الأمن ولا تهتم إلا بأمن السلطة والسلطان.. أمن الدولة جعلوه وكرسوه أمنا فقط للحاكم المستبد أو المغتصب أو المنقلب حماية للفساد، في إطار يحرك المسار بأكمله إلى حالة أمنية بفهم قاصر للأمن؛ لا يعي الوطن وهمومه ولا المواطن وآلامه ومتطلبات معاشه.
وها هي مؤسسات ومرافق العدالة من قضاة ونيابة؛ تمارس ضد وظيفتها بإقامة العدل إلى ممارسات يومية تتعلق بإقامة الظلم والحكم بالجور.. وزارة العدل صارت وزارة الظلم؛ فتقوم بالجور والإجحاف بدلا من قيامها بوظيفة منوطة بها، في العدل والإنصاف.
وها هي مؤسسات الإعلام تقوم باحتراف الافتراء والكذب والتبرير والتزوير، دون احتراف المهنية والمصداقية والشفافية في الأداء الإعلامي والخبري.. ووزارة الإعلام صارت وزارة الكذب والتزييف والتغرير والتبرير والتزوير.
وتأتي في النهاية وزارات المغارة أو وزارات النهب الممنهج؛ التي تمثلها البترول والاستثمار والتموين والتجارة الداخلية وكذا وزارات الجباية، وفي كل مرة سنرى استباحة للمال العام وفسادا يتمكن وتتزايد مساحاته.
نحن هنا أمام وزارات بدا للبعض أن يسمي بعضها بالسيادية، وهي تخرب معنى السيادة بتقديمها كل سياسة تصب في مصالح دول أخرى، لا مصالح الدولة المصرية، وفي إطار تتحرك فيه المصالح المتوهمة الآنية والأنانية لبعض الفئات من ذوى المصالح.
وتقوم هذه الوزارات جميعا بسياسات الضد، لا تقيم استثمارا ولا تحقق تنمية حقيقية لمصلحة المواطن.
ونستطيع أن نتحدث عن وزارات أخرى تقوم بدولة الضد، إلا أنه يطول بنا المقام. ولكن نقول في النهاية لهؤلاء الذين يتحدثون عن الدولة وعن حياضها، وبلا مواربة، أنتم الهادمون للدولة حقيقة وجوهرا، دورا ووظيفة، غاية ومقصدا.. تقومون بكل عمل ينقض فعلها ولا يحمي أبناءها، ولا يحفظ حقوقها.. إنكم في حقيقة الأمر ضد الدولة (الحقيقية) بتمكين دولة الضد الموهومة (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون).
إن "دولة الضد" الفاشية البوليسية المعسكرة؛ تفرز حالة من المواطنة تليق بها وتتوافق مع سياسات طغيانها في الترويع والتجويع.. مواطنة مقهورة في نفوسها والمهدورة في حقوقها ومستحقها. وما من شك أن دولة الضد أخطر ما تكون على المواطنة من دولة كأن، وفي كل شر مطلق؛ وضرر محقق.
twitter.com/Saif_abdelfatah