أخبار ثقافية

"الحالة الحَرِجة للمدعو ك".. الاغتراب في حدوده القصوى

المدعو ك
المدعو ك

أيهما أشدّ، الألم الجسدي أم النفسي؟ سؤال تطرحه رواية الكاتب السعودي عزيز محمد من زاوية "الاغتراب" بمعناه الاجتماعي الثقافي الوجودي. 


تفرّدت الرواية الصادرة عن دار تنوير للطباعة والنشر عام 2017، بنأيها عن السياسة والتاريخ، وهما المجالان اللذان يندر ألّا تنبني الرواية العربية خارجهما.

غضت الرواية النظر عن تسمية البلد الذي تجري فيه الأحداث، لأنها أرادت أن تطرح أزمة "الاغتراب" من زاويته الوجودية النقية، بوصفه إحساساً إنسانياً متأصلاً في إنسان الحضارة المعاصرة، وليس مؤقتاً ناجماً عن ظروف سياسية شاذة، يزول بزوالها، كظروف القمع السياسي والفكري، والحروب والانقلابات العسكرية.

لم تخل الرواية من إشارات واضحة إلى أن الأحداث تجري في بلد عربي نفطي، كبير المساحة، محافظ اجتماعياً، تحكمه التقاليد الأبوية الأُسَرية والعشائرية، نساؤه محجبات، ورجاله يلبسون الأثواب.

 إلا أنها سعت إلى نمذجة "الاغتراب" بمفهومه الاصطلاحي الغربي، على النحو الذي أبرزته الفلسفات والآداب الأوروبية، فأخلت الرواية أجواءها من أية إشارات سياسية خاصة بالبلد الذي تجري فيه الأحداث، وبدت أذهان الشخصيات خالية تماماً من  الانشغال بالشأن السياسي.

"الاغتراب" في المفهوم الغربي لم يتبلور نتيجة تغييب الحريات العامة، بل هو نتيجة فائض الحرية التي تحصّل عليها إنسان الحضارة الأوروبية بعد نضال طويل ضد السلطات السياسية والدينية والإقطاعية. وبتحرره منها وجد نفسه أمام سؤال أشد فتكاً في العقل الفردي، وهو سؤال الغاية من الوجود، يطرحه على نفسه، الإنسان المتحلل من الانتماء الفكري لأي عقيدة تقليدية، المقدّس لفرديّته، المُؤلّه لعقله.

ترسم الرواية على امتداد فصولها الثلاثة، شخصية الشاب المغترب المدعو "ك" الفاقد الغاية من وجوده. وتتبع تفاصيل حياته منذ طفولته إلى أواخر العقد الثالث من عمره، ومروره بتجربة مرض السرطان التي اجتمعت فيها معاناته الاجتماعية مع معاناته الجسدية في أزمة وجودية مركبة تستحق أن يُطلق عليها عنوان "الحالة الحَرِجة".

تفاخر شخصية المدعو "ك" بانبتاتها من كلّ التزام أسري واجتماعي، وتتفنّن في هدم توقعات الآخرين منها بالانتماء الأسري والترقّي الوظيفي والانخراط في الصداقات والتخطيط للمستقبل والبحث عن زوجة مناسبة لتكوين أسرة.

ويتخذ "ك" من شخصية "كافكا" الحقيقية، وشخصياته الروائية، نماذج يحتذيها في إقامة جدار فكري دفاعي شديد الالتواء والصلابة والخشونة، يعزله عاطفياً ونفسياً عن أفراد أسرته وزملائه في العمل وعن محيطه الاجتماعي.

وتُسَلّحهُ العبثية الكافكاوية بقدرة على الاستبصار والنفاذ إلى أعماق الشخصيات المحيطة به والمتقاطعة معه في حياته اليومية، فيهجوها بلسان عقله السليط، ويعرّي سطحيتها وتفاهتها وضحالة وجودها، ويسجّل كل ذلك في يومياته، ولا يستثني أبويه وشقيقه وشقيقته وجده.

ويخوض "ك" صراعه في كلّ شبر من حياته اليومية، في البيت والمكتب وقاعة الاجتماعات والطائرة والمستشفى. و"الاغتراب" نمط تفكير وشعور، وليس مرضاً نفسياً. ولكنّ الوعي الحاد تجاه العلاقات والأحداث، والمفارق لكل الموافقات الاجتماعية، يجعل "ك" يبدو مريضاً بشكل من أشكال الفُصام أو الشخصية الضد اجتماعية، فهو حين يكون وسط الآخرين، ينفصل ذهنه عنهم من دون أن يشعروا بانفصاله. ويأخذ يصوغ واقعاً متخيلاً تجري فيه الأمور على هواه، ساخراً من تهافت أفكار الآخرين، وراسماً صورة كاريكاتورية لشخصياتهم وسلوكهم، مستمتعاً بخلق شعور بالنفور منه والتنافر معه، وسعيداً بردة الفعل التي يتقصدها منهم، وهي الانفضاض من حوله.

تستدعي الرواية أجواء رواية "المسخ" في تأطيرها للعلاقة بين البطل وأفراد أسرته في مرحلة صراعه مع مرض السرطان. وإذا كان تحوّل "سامسا" في رواية "المسخ" إلى حشرة قبيحة مدخلاً لإنعام النظر في حقيقة وصدقية الروابط بينه وبين أفراد أسرته، فإنّ إصابة "ك" بمرض السرطان كان مدخلاً لامتحان متانة الروابط بينه وبين أمه وشقيقه الأكبر الطموح المقدم على الزواج من شابة تنتمي لعائلة تقليدية ثرية، وشقيقته الصغرى المتزوجة من شاب ثري ناجح.

مَسَخَ مرض السرطان هيئة "ك" الجسدية، وكشف ضعفه وقلة حيلته أمام أقسى درجات الألم. لكنّ المرض لم ينفذ إلى ذهنه المتقد، ولا إلى روحه المتمردة، ولا إلى عقله السليط الذي لم يكفّ عن طرح الأسئلة الجوهرية المؤرقة، تجاه نفسه وجسده وخياراته في العلاج، ومسؤوليته عن وجوده، وحريته في حياته أو موته.

يمكن تشبيه " الحالة الحرجة للمدعو ك" بحالة الأسد الجريح. فقد أسست الرواية، في فصلها الأول، لشخصية المغترب شديدة الشراسة تجاه من يتعدّى على حدودها التي رسمتها بذاتية مفرطة، واستغناء متعال، لتفصلها عن المجتمع، ثم وضعت تلك الشخصية، في فصليها التاليين، في قلب المجتمع، من حيث حاجة "ك" المريض بالسرطان إلى ما استغنى عنه من مساعدة الآخرين له وتعاطفهم معه وتدخلهم في شؤونه.

ومثلما يقبل الأسد الجريح المساعدة في حدودها الدنيا، لعلاج جرحه الجسدي من دون جرح كبرياء ذاتيته المفرطة، يقبل "ك" الدخول في ماكينة نظام الرعاية الصحية، مملياً شروطه على الأطباء المعالجين والممرضات، متمسكاً بحقه في تقييم أدائهم بمعاييره العقلية الصارمة، في الوقت الذي يقيّمون فيه حالته الصحية بمعاييرهم الطبية الدقيقة.

 وداخل العائلة يعتصم "ك" المريض بالصمت الذي لا يقلّ في صخبه عن زئير الأسد الجريح، صمت صاخب يعيد ترسيم الحدود بينه وبين أفراد الأسرة والضيوف الزائرين، ويجبرهم على خلع ريائهم وإشفاقهم على باب حجرته. ويرفض المبالغات العاطفية من أمه وشقيقه، والنصائح العلاجية التي تحوله إلى فأر تجارب من شخصيات تدّعي الفضيلة، وتخشى على نفسها من لمس مرارة الألم، وتدعوه إلى التجلّد كي لا ترى الموت منتصراً من خلاله.

تقود التجربة المرضية "ك" إلى اكتشاف زيف أفكاره الخاصة في التعاطي مع اختبار الألم، وليس زيف الآخرين فحسب. فزيف الآخرين واضح لديه قبل المرض، لكن زيف نفسه يتكشف عن استنساخه لتجربة كافكا في المرض، وحرمانه من أصالة الإحساس بتجربته الخاصة وفرادتها. لقد كان يستنسخ أفكار كافكا عن الألم، مُمَنياً نفسه بكتابة أدب عظيم كأدبه، لكنه يكتشف أن ما ألهم كافكا خلال احتضاره بمرض السلّ ليس الألم وحده، وإنما أصالة الإحساس بألم "الاغتراب" لديه.

لقد ضلله الإعجاب بكافكا من حيث ظنّ أنه سيرشده، فاهتدى إلى رؤية التجربة من منظاره الخاص، وقاده ذلك إلى استشفاء مؤقت من المرض، ورؤية طريقه الخاص إلى التشافي الدائم، متصالحاً مع محيطه من دون استسلام كامل لشروطه، ومتخلياً عن وهم "الأدب العظيم الذي يصنعه الألم العظيم".
نجحت الرواية في شقّ طريقها الخاص بعيداً عن الطرق التقليدية للرواية العربية، التي درجت على طرق المحرمات، الدين والجنس والسياسة، لتفرض حضورها من موضوعها وليس من أدبيتها.

اختارت الرواية تقنية اللعب النظيف مع الأدب، فنحتت شخصياتها من صخور مصمتة، وأكسبتهم ملامح واضحة بأبعاد فكرية ونفسية بشرية. وصهرت فكرة "الاغتراب" في التجربة الفردية لمريض السرطان، من دون أن تحمله همّاً سياسياً أو دوراً اجتماعياً أو ثقافياً، أو تجعله ضحية لتشوهات نفسية ناتجة عن قمع أو عنف أو كبت.

قدمت الرواية صورة نقية للإنسان المغترب، هي صورة الإنسان كما يجب أن يكون، حراً في أفكاره، أميناً مع نفسه، صادقاً مع غيره، باحثاً عن الحقيقي والجوهري في الوجود.

التعليقات (1)
morad alamdar
السبت، 04-07-2020 09:23 ص
الأدب .. لا يباع و لا يشترى بل هو طابع في قلب من تربى عليه فليس الفقير من فقد الذهب و لكن الفقير من فقد الأخلاق و الأدب .. و هنا قصة الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس عنوانها ^^ رأس ابن رشد ، ضمن مجموعته القصصية ^^ متاهات و هي قصة تطرح مشكلة معرفة الثقافات الآخرى . فيظهر لنا بورخيس ابن رشد و هو يكتب مقالته عن أرسطو ، متوقفاً عند مصطلحين اثنين : تراجيديا و كوميديا . ليضيف إن ما نبحث عنه هو دائماً بين أيدينا و لكننا لا ننظر نحوه .