ادعى الأمين العام السابق للجامعة العربية عمرو موسى منذ فترة أن
تركيا أخطر على العرب من إيران، علماً هذه الفكرة إماراتية أساساً، وظهرت مع تزايد الحضور التركي في سوريا والمنطقة في السنوات الأربع الأخيرة، وكانت قد استخدمت في تبرير إعادة فتح أبي ظبي سفارتها في العاصمة السورية دمشق ضمن انفتاح عام على نظام الأسد، وضمنياً في تبرير التطبيع والانفتاح على إسرائيل بحجة مواجهة تركيا التي هي أخطر من إيران حسب زعمهم.
عمرو موسى كان قد شرح في مقابلة له مع قناة سعودية أواخر شباط/ فبراير الماضي أسباب ادعائه أن تركيا أخطر من إيران، مركزاً على ثلاث نقاط أساسية مفادها أن تركيا تملك مشروعا في المنطقة، وهي قامت ببناء دولة حديثة وإجراء إصلاحات جذرية بناء على المطالب أو الشروط التي وضعها الاتحاد الأوروبي من أجل انضمامها إليه. وختم أسبابه بالإشارة إلى أنها دولة قوية أثبت قدرتها على إدارة سياسة متوازنة وحتى التوصل إلى تفاهمات ندية مع القوتيين العظميين، أمريكا وروسيا، مع الانتباه إلى أن هذه الأخيرة قوة عظمى من الدرجة الثانية حسب التعبير الساخر، ولكن الدقيق للرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما.
من جهتها، تطرح
الإمارات عبر تصريحات علنية لبعض مسؤوليها ومغرّديها الذين اعتبرهم وزير الخارجية عبد الله بن زايد في سجاله الشهير مع حاكم دبي محمد بن راشد جزءا من المنظومة
الدبلوماسية الرسمية، في تبرير لماذا تركيا أخطر على العرب؛ ادعاءات تشبه تلك التي طرحها عمرو موسى، ولكن
بفظاظة أو حدّة أكثر مع حديث عن الاحتلال التركي والرغبة في عودة الخلافة أو الدولة العثمانية وتطلعات للهيمنة على العالم العربي، وأنها أخطر من إيران لأنها أقوى وتتمتع بتأييد أكبر في الشارع العربي بشكل عام، تحديداً من التيار الإسلامي وقاعدته الجماهيرية العريضة.
في هذه النقطة تحديداً يتم الحديث عن مشروع طائفي إيراني في العالم العربي لا يملك قدرة على التأثير الواسع، أو حتى اختراق غالبية عربية وإسلامية خارج القواعد الطائفية المتطرفة والأقلوية المنساقة وراء إيران وسياساتها الموتورة.
في السياق، نفسه ثمة استيعاب إماراتي لحقيقة أن التوسع الإيراني (التبجح باحتلال أربع عواصم عربية) حدث بضوء أخضر أو برتقالي أمريكي زمن الرئيس السابق باراك أوباما، بينما تبدو واشنطن دونالد ترامب جادة في تحجيم الدور الإيراني وإعادة طهران إلى حجمها الطبيعي، خاصة أن التراجعات الإيرانية ظاهرة وواضحة جداً ولا تخطئها العين في العراق ولبنان وسوريا.
الى ذلك، لن تسمح الجرائم الإيرانية وسياساتها الطائفية الدموية بإعادة تعويمها عربياً وإسلامياً، وحتى أن حركة فلسطينية مقاومة بحجم حماس لم ولن تستطيع تبييض صفحة إيران أو الدفاع عنها وسط جمهورها العربي والإسلامي.
يجب الانتباه كذلك إلى أن صورة إيران من الداخل تبدو سوداوية وبائسة جداً مع العقوبات والحصار، والتردي والانهيار الذي يعم مناحي الحياة بجوانبها المختلفة، كما اتضح خلال أزمة كورونا، وبالتالي فإن طهران لا تملك من أسباب القوة الناعمة ما يجذب الشارع العربي، علماً أنها باتت فعلاً نموذجا سلبيا وضارا في نظر قطاعات شعبية واسعة جداً.
في المقابل، تتجاهل أبو ظبي عن عمد أو تكتفي بتلميحات عن دور تركيا في دعم الثورات والدعوة لإقامة دول عربية مدنية ديمقراطية لكل مواطنيها، في مواجهة دعم الإمارات لأنظمة الاستبداد ومحاولة استنساخ أو إعادة إحياء الأنظمة التي أسقطتها الثورات العربية.
طبعاً لا يتم الحديث بتركيز واستفاضة عن حقيقة القبول الشعبي العربي لتركيا ودورها وسياساتها. وحسب استطلاع معهد بيو الشهير في كانون الأول/ ديسمبر 2017، فإن الغالبية الشعبية العربية تنظر بإيجاب لتركيا والدور الذي يلعبه الرئيس رجب طيب أردوغان. فقط في إسرائيل وبيئة الحشد الشعبي اللبناني (حزب الله سابقاً) يتم النظر بسلبية وكراهية إلى هذا الدور.
طبعاً يتم تضخيم الطموحات التركية التي توصف بالعثمانية (رغم أنها هذا مصطلح إيجابي لدى غالبية الشارع العربي والإسلامي) والاستعانة بقومجيين ودواعش فلول اليسار العربي المنقرض لترويج تلك المزاعم. والمفارقة أن هؤلاء أو غاليبتهم للدقة؛ تابعون أو متساوقون ومتماهون أيضاً مع الحشد الشعبي الإعلامي الناطق باسم السياسات الإيرانية الإمبريالية التي تزعم الإمارات محاربتها، حتى لو تمت إزاحتها إلى الدرجة الثانية بعد الخطر التركي المزعوم.
أعتقد أن التطبيع الإماراتي مع إسرائيل يندرج أيضاً في سياق مواجهتها لما تعتبره الخطر التركي، رغم حديثها العلني عن مواجهة إيران وما تصفه بالتطرف العربي، في إشارة إلى الثورات وتيار الإسلامي السياسي الذي كان وما زال مكوّنا أساسيا وأصيلا فيها.
إذن فالإمارات هي عرابة أو صاحبة فكرة أن تركيا أخطر على العرب من إيران (رغم التركيز على بشاعة الممارسات الإيرانية في ما يشبه الحق الذي يراد به باطل). وهي موّلت مواقع ومنابر إعلامية ومراكز بحث من أجل شيطنة تركيا، وفبركة الإشاعات ضدها، ونجحت للأسف في جرّ السعودية، بصفتها قوة عربية إسلامية كبرى، ولو نسبياً وراءها.
الإمارات تعرف طبعاً أنها لا يمكن من مواجهة تركيا بمفردها، ولذلك استعانت، إضافة للسعودية، بقوى أخرى، فقامت بتمويل تنظيم بي كاكا الإرهابي بأجنحته المختلفة للاستمرار في معركة الاستنزاف ضد أنقرة، كما قدمت رشوة لنظام الأسد لكسر اتفاق وقف النار وخفض التصعيد في محافظة إدلب، واستقدمت وموّلت مرتزقة روس لإنجاح
مشروع خليفة حفتر (النسخة الليبيبة من بشار الأسد)، أو على الأقل إفشال مشروع حكومة الوفاق الليبية الشرعية والثوار الليبيين الذين تدعمهم تركيا، في خطوة تشبه بالضبط تلك التي قامت بها إيران في سوريا لمنع سقوط بشار الأسد وانتصار الثوار المدعومين من تركيا أيضاً.
لفترة بدت أبو ظبي وكأنها أوكلت مهمة مواجهة تركيا للنظام المصري، بينما اكتفت هي بالقيادة من الخلف، إلا أن أزمات نظام السيسي وفشله المتكرر داخلياً وخارجياً دفعا أبو ظبي لما يشبه إعلان الحرب ضد أنقرة، وفي مستويات مختلفة سياسية وإعلامية وعسكرية وأمنية، أيضاً بالوكالة في ساحات أخرى تمتد من العراق وسوريا إلى ليبيا، وصولاً حتى إلى
الصومال في القرن الأفريقي.
طبعاً من قبيل الغطرسة والغرور أن تتصور الإمارات أنها قادرة على التصدي لتركيا التي تتمتع بقوة ذاتية كبيرة، كما أقر عمرو موسى، إضافة الى تمتعها بتأييد شعبي كبير ليس فقط وسط الإسلاميين، وإنما في الشارع العربي بشكل عام.
تعتمد تركيا أساساً القوة الناعمة في حضورها وسياساتها الخارجية (الخيار العسكري استثناء يثبت القاعدة ولا ينفيها)، من هنا تملك قدرة على بناء الجسور مع العالم العربي عبر منتجاتها وصادرتها الصناعية والغذائية والفنية، وسياحتها المزدهرة التي تستقطب ملايين السياح العرب على امتداد العام.
والأهم ربما أن تركيا تتبنى مواقف سياسية من القضايا العربية تنال رضا واستحسان الجمهور العربي، رغم الضخ الإعلامي المكثف ضدها، كما هو الحال في القضية الفلسطينية والثورات العربية. وعلى امتداد الوطن وعرضه تبدو تركيا في الجانب الأخلاقي والسياسي الصحيح، حتى في الصومال.
وعموماً يبدو الفشل كمصير محتوم للسياسة الإماراتية، كون تركيا قوية وتتمتع بتأييد شعبي عربي جدّي وعميق، ولأن نظام الأسد وبي كا كا وحفتر أصغر وأضعف من مواجهتها. والكلام نفسه يمكن قوله طبعاً عن نظام عبد الفتاح السيسي، ومع ذلك لا بأس من محاولة التفاهم معه، بموازاة سياسة مماثلة ودائمة تجاه السعودية، لعزل الإمارات وتركها وحيدة في سياستها الموتورة والمحكومة بالفشل.