فتح ملف المقابر الجماعية في مدينة ترهونة الليبية ملف العدالة الانتقالية في
ليبيا مرة أخرى. هذه المرة جاءت التصريحات واضحة لمندوب ليبيا في الأمم المتحدة، الطاهر السني، الذي طالب المحكمة الجنائية الدولية في فتح تحقيق في ما جرى، بشكل غير مباشر، عندما قال إن المحكمة لا تحتاج المزيد من الأدلة على
جرائم خليفة حفتر.
وأتصور أن من مصلحة كل الأطراف حاليا فتح هذا الملف، خاصة الحكومة المعترف بها دوليا في طرابلس، وذلك عبر عدة خيارات ومسارات:
أولا: تصديق حكومة الوفاق على معاهدة روما المنشئة للمحكمة الجنائية الدولية. وهنا ينعقد الاختصاص الجنائي مباشرة للمحكمة للنظر في الدعاوى المتعلقة بليبيا، من دون انتظار التقدير الشخصي للمدعي العام للمحكمة أو الإحالة من مجلس الأمن. وبالتالي تستطيع المحكمة أن تقبل الدعوى وتبدأ في نظر القضية، خاصة وأن المحكمة لا تزال تنظر قضية سيف الإسلام القذافي الهارب والتي أحيلت لها من مجلس الأمن.
ثانيا: إذا الخيار السابق لأي سبب، فليس أقل من استدعاء المنظمات الدولية المعنية وخاصة غير الحكومية منها، مثل هيومان رايتس ووتش والعفو الدولية، لتوثيق المقابر الجماعية وغيرها من
جرائم الحرب المرتكبة، وذلك تمهيدا لاستخدامها إما في رفع دعاوى قضائية في أوروبا ضد حفتر وشركاه أو لتقديمها لأي إطار قضائي مستقبلا، خاصة إذا تم تشكيل محكمة دولية خاصة لجرائم الحرب في ليبيا.
هذه الخيارات ستحقق لليبيا عدة مزايا هامة في ظرفها الحالي. فهي من ناحية ستردع قوات حفتر والقوات
المرتزقة الروسية وغيرها مستقبلا من الإقدام على مثل هذه الانتهاكات مرة أخرى، ومن ناحية ثانية، ستوفر تحذيرا للقوات المقاتلة إلى جانب حكومة الوفاق بأنها تحت المراقبة وتردع أية عملية انشقاق مستقبلا، أو محاولة استسهال ضرب المدنيين في أية مشكلة مستقبلية. كما سيساعد هذا الأمر في تقليل مقاومة أي مليشيا لتسليم سلاحها في إطار أية عملية قادمة لتنظيم القوات المسلحة الليبية تحت قيادة سياسية شرعية منتخبة.
من جانب آخر، سيأخذ هذا الملف القضية الليبية في الغرب إلى مربع قانوني مختلف، إذ لن تستطيع دول مثل فرنسا أو غيرها من الدول الوقوف إلى جانب متهمين بارتكاب
جرائم حرب كما تفعل حاليا. فالقضية الليبية ينظر إليها غربيا على مستوى البرلمانات والشعوب والرأي العام؛ كصراع مسلح، لكن فتح هذه الملف سيحركها إلى مربع آخر متعلق
بالعدالة وجرائم الحرب.
وفي كل الأحوال، لا يجب النظر لملف العدالة الانتقالية كملف فرعي أو ثانوي لأنه ملف رئيسي وسيأتي دوره عاجلا أو آجلا. وليس من مصلحة أي طرف نزيه حاليا في ليبيا التغاضي عن هذه الملف لأن التجربة والتاريخ يعلماننا أن القوى الكبرى قد تفتحه في الوقت الذي تشاء، عندما يتقاطع مع مصالحها ولتحقيق أهداف سياسية محددة.
إن كل المحاولات السابقة لتحقيق العدالة الانتقالية داخليا في ليبيا منذ ثورة ١٧ فبراير ٢٠١١ تعرضت للعرقلة لأسباب مختلفة، بل وأصبح غياب التركيز على هذا الملف ثغرة وترت العلاقات مع دول الجوار ذات المصالح مع ليبيا.
ومثال ذلك، السجال التونسي والجدل الكبير قبيل تسليم تونس رئيسَ الوزراء الليبي السابق البغدادي المحمودي لليبيا، بناء على طلب المجلس الانتقالي الليبي، وأصبح حرا طليقا العام الماضي، حيث كانت تؤيد الحكومة التونسية تسليم البغدادي ويعارض ذلك الرئيس المنصف المرزوقي لأسباب حقوقية تتعلق ببنية النظام القضائي في ليبيا حينها. وفي نهاية الأمر انتصرت رغبة الحكومة لأسباب تتعلق بالعلاقات الاقتصادية والسياسية مع الجارة ليبيا.
ولكن في المحصلة لم تستقر ليبيا، وأفرج عن الرجل بعدها بسنوات رغم حكم الإعدام الذي صدر بحقه في ليبيا عام ٢٠١٥ ولم تصدق عليه المحكمة العليا الليبية.
twitter.com/hanybeshr