هل تصدق عزيزي القارئ أن الإمارات التي تشن هذه الحرب المجنونة على الشعب الليبي، وتمول كل العمليات الحربية لقتل البشر وتدمير الحجر لا تزال تحتفظ بعلاقات دبلوماسية كاملة مع ليبيا، ولا تزال سفاراتها قائمة في قلب طرابلس؟!!
في حالات كثيرة تاريخيا وجغرافيا حين تتوتر العلاقات بين بعض الدول فإنها تلجأ إلى قطع العلاقات وطرد السفراء، يحدث ذلك في حالات أقل من الحرب المباشرة، فعلت ذلك الإمارات نفسها مع دولة قطر ضمن حصار الرباعي العربي مع السعودية والبحرين ومصر، رغم عدم قيام حرب مباشرة معها، والأمثلة غير ذلك كثيرة، لكن السيد فائز السراج رئيس الحكومة الليبية يرفض حتى اللحظة قطع العلاقات مع عاصمة العدوان على بلاده، فما السبب؟
قبل الإجابة من المهم أن نعرف أن الاتهامات الموجهة للإمارات بتقديم الدعم العسكري والمالي لقوات الجنرال المتمرد خليفة حفتر ليست محض اتهامات جزافية، يلقيها بعض النشطاء السياسيين دون تقديم أدلة، بل إنها وردت في تقارير موثقة لبعثات وخبراء تابعين للأمم المتحدة مهمتهم مراقبة عمليات التسليح لأطراف الحرب في ليبيا. وكان أحدث هذه التقارير ما نشرته قبل يومين وكالة بلومبرج نقلا عن فريق تابع للأمم المتحدة، وتضمن قيام دولة الإمارات بتسيير رحلات جوية سرية، لنقل معدات وأسلحة قتالية لدعم قوات الجنرال الليبي المتقاعد خليفة حفتر في ليبيا، منتهكة بذلك حظر السلاح الذي تفرضه الأمم المتحدة.
ووفقا لتقرير بلومبرج فقد أجرت هيئة من الخبراء، تابعة للأمم المتحدة، تحقيقا في 37 رحلة جوية، كانت تتم من خلال "شبكة معقدة من الشركات المسجلة داخل الإمارات وكازاخستان وجزر العذراء البريطانية، في محاولة للتمويه على نقل المعدات العسكرية".
لم يكن هذا التقرير الأممي الذي يثبت تورط الإمارات هو الأول من نوعه، فقد سبقه العديد من التقارير الصادرة عن لجنة الخبراء التابعة للمنظمة الدولية، وكلها تتضمن المزيد من الأدلة عن الإمدادات العسكرية والتقنية والمالية الإماراتية لمليشيات حفتر، والتي حصدت أرواح عشرات بل مئات الأبرياء الليبيين.
لا يحتاج المواطن الليبي إلى مزيد أدلة عن دور الإمارات، فهو يكتوي بنارها في كل لحظة. وقد تصاعدت المطالب الشعبية والمؤسسية لقطع العلاقات مع الإمارات واعتبارها دولة معادية، وملاحقتها أمام القضاء الدولي بتهم ارتكاب جرائم حرب. وكانت أحدث هذه المطالبات من العضو المجلس الرئاسي محمد عماري زايد، وقد وجه مطلبه مكتوبا وبشكل رسمي لرئيس حكومة الوفاق، وسبقه إلى ذلك أعضاء المجلس الأعلى للدولة، لكن كل هذه المطالب لم تلق استجابة من رئيس الحكومة فايز السراج حتى الآن.
تبدو التفسيرات لموقف السراج متباينة أحيانا، فبعضها يشير إلى تروي الرجل قبل الإقدام على هذه الخطوة خوفا من تداعياتها، والتي تتمثل في المزيد من التهور الإماراتي، والمزيد من الدعم لقوات حفتر علانية. وقد يصل الأمر بالإمارات إلى تسليم مقر سفارة ليبيا في أبو ظبي وقنصليتها في دبي لرجال حفتر، والاعتراف رسميا بحفتر بعد تفويضه "التلفزيوني" الأخير وإعلانه قبول هذا التفويض لحكم ليبيا. وللإمارات سوابق في الاعتراف بحكومات لا يعترف بها باقي العالم، كما فعلت مع حكومة طالبان من قبل، وكما تفعل حاليا مع حكومة أرض الصومال التي لا يعترف بها غيرها.
وبعض التفسيرات تشير إلى ترك الرجل الباب مواربا مع الإمارات لعلها تتوسط بينه وبين حفتر كما فعلت من قبل (آخر شباط/ فبراير 2019). كما أن بعض التفسيرات وجدت في شخصية السراج نفسها سببا لهذا التردد، حيث أن الرجل هو ناتج الإرادة الدولية التي جسدها اتفاق الصخيرات كانون الأول/ ديسمبر 2015، وليس ناتج انتخابات شعبية، أو ناتج زعامة ثورية، ولا ينتظر من مثل هكذا شخصية أن تتخذ قرارا بقطع العلاقات مع الإمارات.
وأخيرا، هناك تفسيرات تشير إلى وجود مقربين من السراج لهم عوائل تقيم في الإمارات أو لها استثمارات في الإمارات أيضا.
وإذا كان قرار قطع العلاقات صعبا إلى هذا الحد، فليس من الصعب ملاحقة الإمارات في المحاكم الدولية، سواء أمام محكمة العدل الدولية، أو محكمة الجنايات الدولية، بحكم ما يتوفر للحكومة الليبية من أدلة ثبوتية عن جرائم الإمارات في ليبيا، والتي كان آخرها قتلى ومصابو طرابلس ومعيتيقة بعد الغارات الأخيرة لمليشيات حفتر.
لقد سجلت قطر تجربة رائدة في "جرجرة" الإمارات إلى محكمة العدل الدولية، حيث رفعت ضدها قضية بشأن انتهاكات لحقوق مواطنين قطريين، وقد أصدرت المحكمة حكمها ضد الإمارات في تموز/ يوليو 2018، وألزمت الإمارات بحماية حقوق هؤلاء المواطنين، والسماح بلم شمل العائلات القطرية فورا، والسماح للطلاب القطريين باستكمال دراستهم في الإمارات. ويمكن لليبيا بطبيعة الحال أن تخطو خطوة مماثلة، خاصة أن الضرر الواقع عليها بسبب الدعم الإماراتي لميليشيات حفتر أكبر من الضرر الذي تعرضت له قطر بسبب الحصار.
ورغم أن ليبيا ليست طرفا في اتفاقية روما المنشئة لمحكمة الجنايات الدولية، إلا أن المحكمة معنية بالملف الليبي بموجب إحالته إليها من مجلس الأمن الدولي بموجب القرار 1970.
وتبدو المدعية العامة للمحكمة فاتو بنسودا متفاعلة مع التطورات في ليبيا، وقد كانت لها إفادة لمجلس الأمن عبر الفيديو كونفرنس قبل عدة أيام، أكدت فيها أن المحكمة "تعمل حاليا على إصدار مذكرات جديدة بالقبض على بعض الأشخاص المتهمين بارتكاب جرائم حرب بعد الغارات الأخيرة لمليشيات حفتر على طرابلس ومعيتيقة. وكانت المدعية العامة للمحكمة واضحة في توجيه الاتهام بشكل مباشر لمليشيات اللواء حفتر، وذكرت بعض القيادات بالاسم، مثل محمود الورفلي، أحد كبار مساعدي حفتر، وتهامي محمد خالد، مسؤول جهاز الأمن الداخلي في نظام القذافي، موضحة أن مكتبها يواصل جمع وتحليل المعلومات المتعلقة بالحوادث التي وقعت خلال الصراع المسلح، والتي يمكن أن تشكل جرائم حرب، بموجب نظام روما (للمحكمة الجنائية الدولية)، الذي يحرم الهجمات المتعمدة على المستشفيات والمدارس ودور العبادة.
على الرغم من الشكوك القائمة حول العدالة الدولية، إلا أن لجوء الحكومة الليبية إلى هذا الباب يظل عملا مطلوبا، وملحا لوضع العالم أمام مسؤولياته القانونية والأخلاقية عن الجرائم التي تحدث في ليبيا، ولتحميل الجريمة لمرتكبيها وعدم السماح بإفلاتهم من العقاب عاجلا أو أجلا. وإذا لم تتحرك الحكومة الليبية لمحاكمة الإمارات ورجالها، فقد تجد نفسها هي المتهمة لاحقا بارتكاب تلك الجرائم.
twitter.com/kotbelaraby
وضعت تطورات الأحداث المتعاقبة وتوازنات القوى المتغيرة للأطراف المحلية والدولية معركة طرابلس المستمرة منذ ما يزيد على العام في بؤرة الأوضاع المعقدة القائمة في ليبيا اليوم، والمتوقع أن يكون لنتائجها آثار بعيدة المدى تتجاوز الحدود الليبية إلى كافة ثورات الربيع العربي وموجاتها القادمة في صراعها في مواجهة أعدائها، والمواجهات العسكرية هي التي سيكون لها الدور الأكبر في حسم الأمور على الأرض، بعيداً عن الاتفاقات السياسية الهشة، وما يقال عن مواقف العدالة الدولية التي تحركها المصالح، ومحاولات التسويف والهدنة التي ترتفع أصوات الدعوة إليها بدعاو إنسانية كاذبة، وهدفها الحقيقي إعطاء الفرصة لالتقاط الأنفاس ومواصلة دعم القوى المعتدية.