كتب

لماذا اختار لبنان الانحياز إلى الغرب بعد حرب سيناء؟

كتاب يعرض أسباب الأزمة اللبنانية عامي 1957 و1958 وأسرار انحياز لبنان إلى الغرب (الأناضول)
كتاب يعرض أسباب الأزمة اللبنانية عامي 1957 و1958 وأسرار انحياز لبنان إلى الغرب (الأناضول)

الكتاب: المتاهة اللبنانية سياسة الحركة الصهيونية ودولة إسرائيل تجاه لبنان (1918 ـ 1958)
الكاتب: رؤوفين أرليخ، تعريب محمد بدير
الناشر: دار معراخوت ووزارة الحرب الصهيونية، الطبعة الأولى 2019،(871 صفحة من القطع الكبير).

يواصل الكاتب والباحث التونسي توفيق المديني في الجزء الثالث والأخير من عرضه لكتاب "المتاهة اللبنانية.. سياسة الحركة الصهيونية ودولة إسرائيل تجاه لبنان (1918 ـ 1958) لصاحبه رؤوفين أرليخ، تتبع معالم السياسة الإسرائيلية تجاه لبنان ونتائجها.

سياسة إسرائيل أثناء الأزمة اللبنانية (1957 ـ 1958)

في عامي 1957 ـ 1958 تعرض لبنان لأزمة خطيرة، شكلت تحديا لمنظومته السياسية بصيغتها التي تبلورت عام 1943 على أساس (الميثاق الوطني).. في أساس الأزمة حضرت ضغوط خارجية وداخلية مورست على النظام اللبناني من جانب مصر الناصرية ومن جانب المسلمين في لبنان، الذين كانت مصر بقيادة جمال عبد الناصر بالنسبة لهم مركز الولاء والتماهي. المسلمون في لبنان رفضوا الاستمرار والتسليم بكونهم مواطنين من الدرجة الثانية في دولة يحكمها المسيحيون وتنتهج ممارسة ازدواجية تجاه الهوية العربية في وقت كانت القومية العربية تعيش أفضل لحظاتها.

يقول الكاتب رؤوفين أرليخ: "بعد حرب سيناء اتبع نظام كميل شمعون سياسة موالية للغرب ومعادية بشكل جانبي للاتحاد السوفييتي، وسط معارضة نزعات السيطرة المصرية على العالم العربي، وهي نزعات تلقت زخما بعد حرب سيناء. خلافا للدول العربية الأخرى، امتنع لبنان عن قطع علاقاته الدبلوماسية مع بريطانيا وفرنسا كردِّ على حرب سيناء. 

وفي 18 تشرين الثاني (نوفمبر) 1956، شُكِلتْ في لبنان حكومة جديدة برئاسة سامي الصلح، شغل فيها شارل مالك منصب وزير الخارجية، وهي حكومة نظر إليها الأمريكيون بوصفها موالية للغرب بشكل صريح كما أن تشكيلها بدا (هزيمة لسوريا وعبد الناصر). في 16 آذار (مارس) عام 1957 أعلن لبنان انضمامه إلى عقيدة آيزنهاور التي استندت إلى فكرة أساسية هي تشجيع دول المنطقة على التعاون مع الغرب مقابل منحها مساعدات واسعة، اقتصادية وعسكرية، وكذلك ضمان حماية الجيش الأمريكي لها من أي هجوم شيوعي. وبعد انضمامه، بدأ لبنان يحصل على مساعدات عسكرية ومالية من الولايات المتحدة" (ص 424 من الكتاب).

 

لقد شغلت الثورة الجزائرية بن غوريون أكثر من الحرب الأهلية اللبنانية. بن غوريون الذي دعا إلى ضم جنوب لبنان إلى إسرائيل عشية حرب سيناء، في إطار خطته لتغيير الشرق الأوسط، امتنع عن استغلال الفرصة التي لاحت له، للوهلة الأولى، من أجل تحقيق أفكاره، فاتسمت سياسة إسرائيل تجاه لبنان حتى عندما وصلت الأزمة إلى ذروتها في صيف 1958 بالحذر الشديد.

 



هذه السياسة الموالية للغرب تعرضت لانتقادات شديدة من جانب مصر وسوريا وكذلك من جانب المعارضة الداخلية لنظام كميل شمعون، التي ترأسها في حينه الزعماء السنة صائب سلام، عبد الله اليافي ورشيد كرامي. كما انضم إليهم كذلك زعيمان بارزان من الطائفة الدرزية والطائفة الشيعية هما كما جنبلاط وأحمد الأسعد، اللذين اعتبرا نفسيهما مضطهدين على الصعيد الشخصي والطائفي، كذلك ضمت المعارضة شخصيات مارونية بارزة مثل: الرئيس السابق بشار الخوري، الذي أظهر منذ البداية خصومة لنظام كميل شمعون، وزير الخارجية السابق حميد فرنجية، الذي سعى إلى وراثة شمعون كرئيس للجمهورية، البطريرك الماروني المعوشي، خليفة عريضة، الذي أيد التحاق لبنان بالحركة القومية العربية الناصرية.

لقد حصلت معارضة نظام شمعون على تأييد كل من مصر وسوريا، اللتين أدارتا عامي 1957 ـ 1958 نشاطا سياسيا واسعا كان يهدف إلى ضعضعة الحكم والدفع باتجاه استبدال الرئيس وإلزام لبنان بالاندماج بالمنظومة السياسية العسكرية للمحور المصري ـ السوري. وانعكس التأييد المصري السوري للمعارضة ضد حكم شمعون دعما سياسيا وإعلاميا ومساعدات عملية بالسلاح والتدريب وتقديم المشورة العسكرية وبتوجيه الإجراءات العسكرية لمعارضي شمعون.

في أزمة 1957 ـ 1958 يمكن الوقوف على مرحلتين رئيسيتين: المرحلة الأولى (حزيران / يونيو1957 ـ أيار / مايو 1958) اتسمت بالتمرد والصدامات العنيفة بين النظام والمعارضة. هذه الصدامات تحولت في المرحلة الثانية (أيار / مايو ـ تموز / يوليو 1958) إلى حرب أهلية بين مؤيدي النظام ومعارضيه. فاتخذ الجيش اللبناني بقيادة الجنرال فؤاد شهاب موقفا حياديا خلال الأزمة. وبذلك، تم الحؤول عمليا دون تفكك الجيش كما حصل في الحرب الأهلية في عام 1975 ـ 1976. لكن، في الوقت نفسه حال موقف الجيش دون قمع التمرد من قبل النظام وتسبب باستمرار الأزمة.

يقول الكاتب رؤوفين أرليخ: "المواجهات العنيفة بين المعارضة والنظام حصلت على خلفية الانتخابات البرلمانية في حزيران (يونيو) 1957، التي حصد فيها شمعون نصرا صريحا. وفي أعقاب الانتصار بدأ شمعون بالتحضير لتعديل الدستور، لكي تتاح له إمكانية انتخابه مرة أخرى في نهاية ولايته عام 1958. وردّا على ذلك، أطلقت المعارضة موجة متواصلة من أعمال العنف والتخريب ضد النظام، بمساعدة خلايا (الفدائيين) الفلسطينية. ردَّ النظام على ذلك جاء مترددا، حيث امتنع عن اتخاذ إجراءات تنطوي على استخدام قوة حازمة ضد المعارضة، خشية تأزيم الوضع أكثر. سبب تحول العصيان والصدامات إلى حرب أهلية واسعة النطاق كان مقتل نسيب المتني، صحافي ماروني، مؤيد للمعارضة وصاحب صحيفة (تيليغراف) في 8 أيار (مايو) عام 1958. في أعقاب مقتله أعلن عن إضراب شامل تطور إلى انتفاضة عنيفة ضد النظام بدعم مصري ـ سوري"(ص 425 من الكتاب).

لقد شغلت الثورة الجزائرية بن غوريون أكثر من الحرب الأهلية اللبنانية. بن غوريون الذي دعا إلى ضم جنوب لبنان إلى إسرائيل عشية حرب سيناء، في إطار خطته لتغيير الشرق الأوسط، امتنع عن استغلال الفرصة التي لاحت له، للوهلة الأولى، من أجل تحقيق أفكاره، فاتسمت سياسة إسرائيل تجاه لبنان حتى عندما وصلت الأزمة إلى ذروتها في صيف 1958 بالحذر الشديد.

ثمة أسباب عديدة حضرت في خلفية سياسة بن غوريون هذه:

أ ـ حرب سيناء: التي جسدت لبن غوريون قيود استخدام الإجراءات العسكرية كوسيلة لتحقيق أهداف سياسية. الضغوط الدبلوماسية الأمريكية والتهديدات السوفييتية اضطرت الجيش الإسرائيلي إلى إخلاء سيناء، وكلا من بريطانيا وفرنسا إلى وقف القتال في منتصف الطريق.

ميخائيل بارزوهر كتب أنَّه في أعقاب الحرب تزايدت لدى بن غوريون الشكوك حول (جدوى) الحروب والاحتلالات الإضافية. في هذه الظروف ، لم يعد القيام بمبادرة إسرائيلية من أجل تغيير طابع وحدود لبنان عن طريق التدخل العسكري يعتبر خطوة عملية وقابلة للتحقيق.

ب ـ غياب الدعم من جانب الدول الغربية: الأمريكيون، الذين أرسوا سياستهم الشرق أوسطية على علاقات وثيقة مع الدول العربية المحافظة، كانوا حذرين من التعاون الوثيق والعلني مع إسرائيل فيما يتعلق بمعالجة الأزمة اللبنانية. وعندما قررت الولايات المتحدة إرسال قوة عسكرية إلى لبنان، أبدت حذراً من إشراك فرنسا وبريطانيا خشية أن يبدو الأمر (مؤامرة غربية)، كما حصل في حرب سيناء، فكيف بإشراك إسرائيل بشكل مباشرة. وفي ليل 15 تموز (يوليو)، قبل وقت قصير من القرار الأمريكي بالتدخل في لبنان، تم نقل رسالة إلى إسرائيل بواسطة وزارة الخارجية الأمريكية مفادها أنه من الأفضل لها الامتناع عن أي عمل عسكري أو اتخاذ أي موقف علني.

على خلفية ذلك، كان على بن غوريون أن يأخذ بعين الاعتبار أن أي مبادرة عسكرية للتدخل النشط في الأزمة اللبنانية سوف تصطدم بمعارضة أمريكية، وذلك بعد أن كانت فرنسا، حليفة إسرائيل وصاحبة المصالح التقليدية في لبنان، قد غرقت في أزمة سياسية خطيرة في أيار (مايو) 1958 انتهت بصعود ديغول إلى الحكم. بحسب تقرير السفير الإسرائيلي في واشنطن، ديغول وجماعته تعاطوا ببرودة مع كميل شمعون جراء معرفتهم أنه كان في الماضي عميلا بريطانيا علنيا وعدوا لفرنسا.

يقول الكاتب رؤوفين أرليخ: "الرئيس اللبناني كميل شمعون الذي طلب في أوقات الضائقة مساعدة إسرائيل سرا (رغم أنَّه ثمة ثبات في أنه كان مستعداً للذهاب بعيدا في طلب المساعدة) أبدى تجاهها موقفا علنيا معاديا، حتى في ذروة الحرب الأهلية. بن غوريون والقيادة الأمنية ـ السياسية في إسرائيل لم يروا في الرئيس كميل شمعون جهة صديقة يجدر الكفاح من أجله أو الدخول في مخاطر زائدة لا حاجة لها. بن غوريون لم يتردد في إيضاح هذا الأمر لأمين عام الأمم المتحدة في رسالة وجهها له، في 30 حزيران (يونيو) 1958، حيث كتب "ليس عندي أي أساس للدفاع عن كميل شمعون، وبشكل عام نحن لا نتدخل في الشؤون الداخلية لأي دولة أجنبية، لكنني أتوجس خشية على مصير الشرق الأوسط". في مسودة الوثيقة يشير بن غوريون إلى أنه يأمل أن لا تطول أيام الرئيس شمعون، لكن هذه العبارة شطبت من الصيغة النهائية للرسالة. 

 

كان على بن غوريون أن يأخذ بعين الاعتبار أن أي مبادرة عسكرية للتدخل النشط في الأزمة اللبنانية سوف تصطدم بمعارضة أمريكية، وذلك بعد أن كانت فرنسا، حليفة إسرائيل وصاحبة المصالح التقليدية في لبنان، قد غرقت في أزمة سياسية خطيرة في أيار (مايو) 1958 انتهت بصعود ديغول إلى الحكم.

 



وفي حديث مع السفير الإسرائيلي في الولايات المتحدة، أبا إيفين، لفت الأمين العام للأمم المتحدة إلى أنه أصغى لأقوال بن غوريون التي تعني أن الأساس هو الحفاظ على النظام في لبنان وليس بالضرورة تأييد حكم كميل شمعون. إلياهو ساسون، السفير الإسرائيلي في إيطاليا، وصاحب الخبرة الغنية في مجال العلاقات مع اللبنانيين، عاد وأبرق إلى وزارة الخارجية في ذروة الأزمة اللبنانية، أن كميل شمعون وجماعته لم يظهروا في الماضي أي تعاطف مع إسرائيل، وأنهم أيضا في الحاضر يتخذون تجاهها موقفا إعلاميا شديد العداء"(ص 429 من الكتاب).

تركيز بن غوريون على نظرية حلف الأطراف:

بعد حرب سيناء، ركز بن غوريون على الاهتمام بنظرية حلف دول الأطراف التي كان يفترض أن تضم إسرائيل وايران وتركيا وأثيوبيا وكذلك السودان، وسط تعاون هذه الدول مع الأقليات غير العربية وغير المسلمة في الشرق الأوسط. هذا الحلف بنظر بن غوريون كان ردا مناسبا وعمليا على التمدد الناصري والسوفياتي، ولذلك أهتم بدفع هذه النظرية قدما إبان الأزمة اللبنانية.
 
في ذروة الأزمة، وبعد الانقلاب في العراق عام 1958، عقد بن غوريون اجتماعا خاصا في بيت غولدا مئير من أجل البحث في طلب المساعدة من الولايات المتحدة لتأسيس حلف الأطراف الذي سيكون، برأي بن غوريون، قادرا على الوقوف بوجه التمدد السوفييتي بواسطة عبد الناصر وكذلك سيكون قادرا على إنقاذ حرية لبنان وربما أيضا حرية سوريا في وقت لاحق.

إزاء التناقض الحاصل بين الرؤية والطموحات ذات الصلة بلبنان وبين الواقع الإقليمي والدولي كما انعكس في أزمة 1957 ـ 1958، تغلب الجانب البراغماتي على الرؤية والطموحات التي تعود جذورها إلى فترة الانتداب والتي لم تعد واقعية في نهاية الخمسينيات.

السياسة الإسرائيلية الحذرة تجلت في الامتناع عن التدخل العسكري المباشر في الأزمة اللبنانية وفي تركيز الجهود على العمل السياسي مع الولايات المتحدة الأمريكية من أجل أن تساعد الأخيرة لبنان، خصوصا في صيف 1958 عندما وصلت الأزمة اللبنانية والإقليمية إلى ذروتها. (طوال هذه الأزمة كانت الولايات المتحدة على تواصل وثيق وحميم معنا. في منتصف نيسان (أبريل) عام 1958 أبلغت إسرائيل الولايات المتحدة أنها تنظر بعين القلق الشديد إلى التطورات في لبنان بسبب الخطر الذي لحق بالنظام الموالي للغرب في المنطقة جراء التآمر المصري السوفييتي وبسبب التداعيات المدمرة المتوقعة على المنطقة لسقوط لبنان.

في 18 حزيران (يونيو) عام 1958 أُرْسِلَتْ رسالة من قبل رئيس الحكومة ووزير الخارجية إلى وزير الخارجية الأمريكي حذرت إسرائيل فيها من أنه (بعد سقوط لبنان سيأتي دور الأردن والعراق وبعد ذلك كل الشرق الأوسط العربي. الدبلوماسيون الإسرائيليون حثوا محاوريهم الأمريكيين على إظهار موقف أكثر فعالية في مساعدة أصدقاء الغرب في الشرق الأوسط وتفعيل عقيدة آيزنهاور في لبنان، من أجل الحفاظ على استقلاله وطابعه ومنع سقوط كميل شمعون قبل نهاية ولايته. وكان هناك حجة إضافية أثيرت أمام الأمريكيين في نهاية حزيران (يونيو)، هي أنه في حال أدارت الولايات المتحدة الأمريكية ظهرها للبنان في ظل ضغط الناصرية، فإن أي دولة في الشرق الأوسط لن تثق باستعداد الولايات المتحدة لمساعدة حلفائها وقت الضيق.

 

اقرأ أيضا: مقومات الرؤية الإسرائيلية إلى لبنان.. قراءة تاريخية

 

اقرأ أيضا: النشاط الصهيوني في لبنان منذ نهاية الحرب العالمية الأولى

التعليقات (0)