وصلنا إلى زمن صار السؤال
ملحاً:
فلسطين لمن؟ وقد مررنا بمرحلة كانت فلسطين بالكامل لأهلها الفلسطينيين، ثم
زرعت
إسرائيل وتم تقسيم فلسطين بين
اليهود والعرب، ثم ناور اليهود بالسلام الزائف
وقمع العرب عسكريا والاستعانة بواشنطن لتمكينها، وصولا إلى استبعاد وجود الفلسطينيين
والهيمنة الكاملة لليهود وإدخال الفلسطينيين قهرا إلى متاحف التاريخ.
وفي ضوء ذلك التطور التاريخي، مرت المسألة
بثلاثة نظريات: النظرية الأولى أن فلسطين كلها للفلسطينيين، والنظرية الثانية هي
أن فلسطين قسمة بين الفلسطينيين واليهود، والنظرية الثالثة هي أن فلسطين كلها
لليهود وليذهب الفلسطينيون إلى الجحيم.
والحق أن الأصل هو النظرية الأولى، حيث عاش
الفلسطينيون دون منغصات في وطنهم حتى بدأ تسلل اليهود حسب خطط منظمة منذ أواخر
القرن التاسع عشر، وتنفيذا لمخطط الدولة اليهودية التي بلورت فكرة المشروع
الصهيوني، وبعد أن استقر اليهود مع بريطانيا العظمى على اختيار فلسطين ضحية لهذا
المشروع. وبالفعل أعربت رئيسة وزراء بريطانيا السابقة تيريزا ماي عام 2017،
بمناسبة الذكرى المئوية لتصريح بلفور، عن اعتزازها وفخرها ببلدها الذي تولى منذ
البداية رعاية المشروع والترتيب لقيام إسرائيل، ثم سلم الرعاية لواشنطن بعد الحرب
العالمية الثانية. وعندما بلغ الغضب الفلسطيني أشده ضد الهجرات اليهودية واستشعر
الفلسطينيون الخطر قاموا بثورة القسام عام 1936، ولكن بريطانيا تدخلت بالخديعة
لاحتواء الثورة وتقنين الهجرات وتسهيل استقرارها في فلسطين برعاية الانتداب البريطاني.
ومن عجب أن بعض الباحثين الغربيين يحاولون
الآن تبرئة بريطانيا من هذه الجريمة التي تعتز بها الحكومة البريطانية. وقد تعاونت
كل الدول الرئيسية في النظام الدولي بعد الحربين الأولى والثانية على إقامة
إسرائيل في فلسطين، وهي تعلم أن المشروع الصهيوني يقوم على اغتصاب فلسطين، ويكشف
عن محطاته كلما كانت الظروف مناسبة.
والغريب أن العرب صدقوا قرار التقسيم، وصدقوا
أن
السلام الحقيقي ممكن بين الذئب وضحاياه، وأن المشروع الصهيوني يسمح بوجود الفلسطينيين
الذين يعتبرهم غاصبين لحقوق اليهود، جنبا إلى جنب مع اليهود.
وهكذا تقوضت النظرية الأولى منذ 1948، حيث
ظهرت النظرية الثانية، وهي أن فلسطين قسمة بين صاحب البيت والضيف الذي قدم مجموعة
من المبررات، بعضها إنساني استعطافي في البداية، ثم كلما اشتد عوده وانحسر الغطاء
العربي عن العظم الفلسطيني كشف عن حقيقته التي أخفاها للتمويه والتدليس.
وهكذا دخلنا في النظرية الثالثة، وأهم معالمها
وضوح المشروع في الرغبة والعزم على ابتلاع كل فلسطين، وتراجع الدعم العربي للحقوق
الفلسطينية واشتداد الضغوط الأمريكية، وإخلالها الجسيم بقواعد الوساطة وبكل قرارات
الأمم المتحدة. وتعتمد إسرائيل على خلق الأمر الواقع بالقوة ما دام العرب قد
انصرفوا عن القضية، بل وشغلت إسرائيل العرب بما يشغلهم، وضربت العروبة وشوهت
صورتها، واستغلت الاستبداد العربي والثورات الشعبية ضد الحكام.
وكانت النتيجة أن بعض الدول اتجهت إلى التطبيع
العلني مع إسرائيل، بل سمحت لإعلامها بأن يروج لذلك، وخلفت حالة عداء للفلسطينيين
على النحو الذي عالجناه في مقالاتنا ضمن حملتنا في الرهان على حراسة الوعي العربي.
وعندما اطمأنت إسرائيل إلى أن الفلسطينيين صاروا وحدهم بعد أن فصلتهم عن أمتهم،
سلطت إعلامها لزرع الأكاذيب والأوهام لدى الرأي العام العربي الذي في مجمله لا
يصدق.
والحق أن إسرائيل تخطط منذ
البداية للانفراد بكل فلسطين، وشرح نتنياهو نظريته التي أوصلت إسرائيل إلى الوضع
المذهل، بحيث أصبحت دولة صديقة ويفضلها بعض المخدوعين على أصحاب الأرض في فلسطين،
وزودتهم بالأكاذيب مستغلة المناخ السياسي الرسمي للإعلام العربي، وجهل المتحدثين
واستعدادهم للتصهين وتشجيع حكوماتهم لهم، بل وانفرادهم بالساحة الإعلامية.
إسرائيل مقتنعة بأن قوتها هي سبب تمكينها،
ولكن هذه القناعة لا تصلح للوجود على المدى البعيد، وتعمل جاهدة على تذليل العقبة
الأخيرة وهي الشعوب العربية. وعندي أن فلسطين في النهاية لأهلها، وأن قبولنا
باقتسام فلسطين مرهون بقسمة حقيقية، بحيث تكون حصة إسرائيل هي مقابل الضعف العربي.
ونصيحتي لإسرائيل ألا تنخدع بقوتها وباستكانة
بعض الحكام، فالمستقبل للشعوب التي سوف تثور وتقترب ثورتها كلما ازداد قهرها
وتغييب العدل في الدول العربية ومع الفلسطينيين. ونصيحتي لليهود أن يبدأوا صفحة
جديدة ويتضامنوا مع الفلسطينيين ويتفقوا معهم على تسوية عادلة، وإلا فإن زوال
إسرائيل محقق حسبما توقع الراحل العزيز د. عبد الوهاب المسيري.
وإسرائيل الآن بين الحتمية التاريخية للمسيري
وبين حماقة القوة والانخداع بها، والتي سوف تسرع قواعد الحتمية التاريخية. ولتنظر
إسرائيل هل بقي من الغزاة في المنطقة أحد أم ابتلعتهم المنطقة وجعلتهم جزءا من
ثقافتها؟ فلا نأنف من إبراز أن الغزاة كانوا من الناحية الثقافية رافدا للثقافة
العربية؟