تقارير

"المفتي".. سيرة "أيقونة النضال الفلسطيني" المثيرة للجدل!

كان أمين الحسيني مفتي القدس وما يزال جزءا من تاريخ فلسطين.. (عربي21)
كان أمين الحسيني مفتي القدس وما يزال جزءا من تاريخ فلسطين.. (عربي21)

أين يقف "الحاج" أمين الحسيني وسط سنوات الجمر والبنادق والبيانات التي رافقت مسيرة القضية الفلسطينية؟ هل كان لقاؤه مع هتلر وموسيليني خطأ قاتلا، ماذا لو انتصرت دول "المحور" في الحرب العالمية الثانية؟ هل استنزفته الخلافات العائلية بين آل الحسيني وآل الخالدي وآل النشاشيبي وغيرهم في ذروة النضال الفلسطيني؟

ثمة أسئلة ملغومة، تبدو، أحيانا، غير بريئة للمتلقي، تقفز دائما أثناء الكتابة حول أيقونة النضال الفلسطيني على مدى نحو سبعين عاما، "الحاج" أمين الحسيني. رجل جمع بين الدين والسياسة، أمضى سنوات عمره مطاردا وسجينا ومتنقلا بين العواصم العربية والأوروبية.

كان الحاج الذي ولد في مدينة القدس عام 1895 جزءا من تاريخ فلسطين الحديث في أحلك سنواتها وأشدها ظلمة وقسوة. ورث المنصب من شقيقه كامل الذي ورثه هو الآخر عن والده طاهر أفندي بن مصطفى الحسيني (1842 ـ 1908) مفتي القدس لأكثر من أربعين عاما. حتى لقب "الحاج" اكتسبه من والدته حين أدى فريضة الحج برفقتها وله من العمر 16 عاما، فاكتسب لقب "الحاج" من حينها.

حين نشبت الحرب العالمية الأولى عام 1914 كان "الحاج" يتلقى تعليمه في "جامعة الأزهر" بالقاهرة، كما التحق بكلية الآداب في "الجامعة المصرية"، وكذلك في "دار الدعوة والإرشاد".

وحين عجز عن إكمال دراسته ذهب إلى إسطنبول والتحق بالكلية العسكرية، وتخرج برتبة ضابط صف في الجيش العثماني، لكنه ترك الخدمة بعد ثلاثة أشهر فقط من تخرجه لاعتلال صحته، عائدا إلى القدس التي كانت على وشك الوقوع تحت "الانتداب"البريطاني، الكلمة المخففة عن "الاستعمار" فالتحق بقوات الثورة العربية الكبرى بقيادة الشريف الحسين بن علي وجند لها المتطوعين.

أسس ورأس "النادي العربي" عام 1915، وهو أول منظمة سياسية عرفتها فلسطين، التي انطلقت منها الحركة الوطنية الفلسطينية.

شارك في العمل الوطني الفلسطيني منذ عام 1918، واتهمته السلطات البريطانية بأنه وراء المظاهرات التي شهدتها فلسطين احتجاجا على الهجرة اليهودية. وبعد إلقاء القبض عليه هاجم شباب القدس القافلة البريطانية المشرفة على ترحيله للسجن عام 1920، ومنها هرب إلى مدينة الكرك بجنوب الأردن ومنها إلى دمشق، وحكم عليه غيابيا بالسجن 15 عاما، لكن ما لبث أن عاد إلى القدس بعد صدور عفو عنه، وبعد عودته رشحه رجال فلسطين لخلافة شقيقه مفتي القدس بعد وفاته، وأشرف الحسيني على كافة الشؤون الإسلامية في فلسطين، واتصل بكافة المناضلين في العالم العربي والإسلامي في مقدمتهم عز الدين القسام وعبد القادر الحسيني.

واجه الحسيني معارضة من قوى وعائلات فلسطينية توجت بإظهار الرجل وكأنه مهادن وموال للإنجليز، وفي لقاء بينه وبين بعض قادة العمل الوطني على رأسهم عبد القادر الحسيني تتوحد الجهود، ويكون عبد القادر الحسيني قائدا للأعمال العسكرية، و"المفتي" الواجهة السياسية، والمنسق للجهود العسكرية، وتوفير التمويل اللازم لكافة الجهود لنصرة القضية الفلسطينية.

 

لقد اندثرت آمال الحسيني والفلسطينيين بعد الهزيمة التي لحقت بدول "المحور"، ففر "المفتي" قبل سقوط برلين إلى سويسرا باعتبارها بلدا محايدا، ولكن فرنسا استطاعت القبض عليه ووضعه تحت الإقامة الجبرية، حتى استطاع الهرب من فرنسا متجها إلى القاهرة عام 1947، ليستكمل آخر فصل في حياته النضالية.

 



وتنطلق الثورة عام 1929، ثم عام 1933، ثم تكون الثورة الكبرى عام 1936 ـ 1939، ويتولى الحسيني مسؤولية "اللجنة العربية العليا لفلسطين"، وهي لجنة لتنسيق الجهود على مستوى الدول العربية لنصرة القضية الفلسطينية، وتتعقب بريطانيا "المفتي" وتصدر قرارا بإقالته من جميع مناصبه.

ويضطر المفتى إلى الخروج من فلسطين إلى لبنان، وقد وقع في قبضة السلطة الفرنسية، التي رفضت تسلميه للسلطات البريطانية، وسمحت له بالعمل في الفترة ما بين عامي 1937 و1939.

وحين حاولت السلطات الفرنسية القبض عليه ونقله إلى السجن، هرب إلى العراق، وعندما قامت، ثورة رشيد عالي الكيلاني عام 1941، وقف "المفتي" مع الثورة. ومع فشل الثورة انتقل إلى طهران، ثم تنقل سرا بين عدة عواصم أوروبية حتى وصل إلى برلين، والتقى في هذه المرحلة مع قادة دول "المحور" في إيطاليا أو ألمانيا، بحكم أن الدول العربية كلها تقريبا ليس بينها وبين ألمانيا عداوة، كما أن ألمانيا تواجه كل  من إنجلترا وفرنسا وهما الدولتان اللتان تحتلان أغلب الدول العربية.

قابل الحسيني الزعيم الألماني أدولف هتلر عام 1941، وجرت بين الرجلين مقابلة استمرت أكثر من ساعة، واتفق الطرفان على أن تعلن دول "المحور" عن استقلال الأقطار العربية، ومواجهة المشروع اليهودي، ووعد "المفتي" بأنه سيكون الرأي الحاسم في القضايا العربية باعتباره السلطة المطلقة في التحدث باسمهم بعد انتصار ألمانيا ودحرها لبريطانيا من المنطقة.

بقي هذا اللقاء ذريعة يستخدمها الإسرائيليون في اتهام "المفتي" بالتعاون مع ألمانيا النازية، توجت بتصريحات بنيامين نتنياهو في المؤتمر الصهيوني العالمي في القدس عام 2015، بزعمه أن الحسيني هو الذي أقنع النازيين بتنفيذ محرقة اليهود في أوروبا.

وأكد نتنياهو أن هتلر كان يريد طرد اليهود من أوروبا فقط، ولكن الحسيني قال له إن اليهود ينبغي أن يزالوا من الوجود وإلا فإنهم سينتقلون إلى فلسطين، ومضى بالقول إن هتلر سأل "المفتي" وقتها "ماذا أفعل؟" فأجاب ـ  حسب رواية نتنياهو ـ "أحرقوهم".

قوبلت هذه التصريحات بنقد واستهجان الكثير من اليهود بمن فيهم ناجون من "المحرقة"، وكذلك المعارضة الإسرائيلية والمؤرخين الإسرائيليين الذين رأوا في ذلك "تزويرا للحقائق وتشويها للتاريخ". واعتبرت كبيرة المؤرخين في مركز "الهولوكست" اليهودي دينا بورات أن ملاحظات نتنياهو لا تتسم بالدقة ، وأن "المفتي" لم يكن هو الذي أوحى لهتلر بإبادتهم، فالفكرة ـ بحسب قولها ـ تسبق لقاء الحسيني بهتلر عام 1941، وتعود إلى كلمة ألقاها الزعيم النازي في "الرايخستاج" عام 1939.

ودفعت "تهيوؤات" نتنياهو، وزير الحرب السابق الجنرال يعالون إلى القول:  "بالتأكيد لم يكن الحسيني مبتكر الحل النهائي بل كان ابتكارا شريرا لهتلر نفسه"، وأكدت الحكومة الألمانية بعد تصريحات نتنياهو أن "ألمانيا النازية هي المسؤولة عن المحرقة".

وأكد شيخ المؤرخين المصريين والرئيس السابق للجمعية التاريخية عادل غنيم أنه لم يعرف عن الحسيني طوال تاريخه الطويل وقيادته للحركة الوطنية الفلسطينية في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي أي اتجاه للعنف أو استخدام الوسائل المتطرفة ضد اليهود في فلسطين .

وقال: "اللجنة الملكية البريطانية التي ذهبت إلى فلسطين للتحقيق في أسباب ثورة 1936 كتبت في تقريرها أنها لا تشك في حسن نيات المفتى أمين الحسيني وزملائه أو في الروح الإنسانية التي تختلج في نفوسهم رغم كراهيتهم السياسية لمشروع الوطن القومي اليهودي".

لقد اندثرت آمال الحسيني والفلسطينيين بعد الهزيمة التي لحقت بدول "المحور"، ففر "المفتي" قبل سقوط برلين إلى سويسرا باعتبارها بلدا محايدا، ولكن فرنسا استطاعت القبض عليه ووضعه تحت الإقامة الجبرية، حتى استطاع الهرب من فرنسا متجها إلى القاهرة عام 1947، ليستكمل آخر فصل في حياته النضالية.

ويبدأ الحسيني في تنظيم صفوف المجاهدين من القاهرة، وتدخل القضية الفلسطينية طورها الحرج، وتعلن الأمم المتحدة مشروع "تقسيم فلسطين"، ويرأس "الهيئة العربية العليا لفلسطين"، وتبدأ الحرب، وتبدأ المؤامرات ، وتقوم بعض الدول العربية بمنع المجاهدين من الاستمرار في مقاومة العصابات الصهيونية، وذلك بحجة أن جيوشهم سوف تقوم بهذه المهمة، وتنتهي الحرب بهزيمة الجيوش العربية التي تدخلت شكليا، وما إن يتخلص "المفتي" من بعض القيود التي وضعتها المؤسسة الرسمية العربية عليه حتى يسرع لعقد "المؤتمر الفلسطيني" في القدس وإعلان استقلال فلسطين الأمر الذي دفع بالحكومة المصرية  إلى اعتقاله وحكومة "عموم فلسطين" وتحدد إقامتهم في القاهرة، ومع قيام ثورة "الضباط الأحرار" عام 1952، يبدأ "المفتي" في تنظيم الأعمال الفدائية على كافة الجبهات، وتستمر العمليات حتى عام 1957.

 

بدأت خطة عربية بإنشاء منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964، ويعين أحمد الشقيري رئيسا للمنظمة، وبدت تلك المرحلة وكأنها إعلان انتهاء مرحلة "المفتي" الذي شعر بأن هناك تجاوزا لتاريخه ولصلاحياته، دون أن يستسلم للوضع الجديد بشكل كامل، موضحا موقفه الثابت أن القضية لن تحل إلا بالكفاح المسلح

 


 
وفي نفس الوقت ينشط في الجانب السياسي على مستوى الدول العربية والإسلامية، وبعض الدول الآسيوية؛ وذلك لتأييد الحق الفلسطيني في وطنه، ودعم الجهاد المسلح في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، ويمثل فلسطين في تأسيس "حركة عدم الانحياز" عام 1955 في مؤتمر باندونج بإندونيسيا، ولكن تدريجيا يتم تقييد حركته السياسية ووقف العمل الفدائي بداء عام 1957 على معظم الجبهات، مع ظهور خطة التسوية التي عرفت بـ"خطة همرشولد"، وهي الخطة التي وافقت عليها دولة المواجهة العربية، وينتقل الحاج إلى بيروت عام 1961، وينقل إليها مقر "الهيئة العربية العليا".

وتبدأ خطة عربية بإنشاء منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964، ويعين أحمد الشقيري رئيسا للمنظمة، وبدت تلك المرحلة وكأنها إعلان انتهاء مرحلة "المفتي" الذي شعر بأن هناك تجاوزا لتاريخه ولصلاحياته، دون أن يستسلم للوضع الجديد بشكل كامل، موضحا موقفه الثابت أن القضية لن تحل إلا بالكفاح المسلح، ويستمر الرجل في نضاله حتى رحيله في بيروت عام 1974. ودفن في مقبرة الشهداء عن عمر يناهز 79 عاما.

وفيما بعد هدمت الجرافات الإسرائيلية بيت ومقر "فندق شبرد" بحي الشيخ جراح في وسط مدينة القدس أوائل عام 2011، وكان بيت "المفتي" قد تحول إلى فندق بداية السبعينيات، ووصف نجل "المفتي" محافظ القدس عدنان الحسيني العملية الإسرائيلية "بالبربرية" و"استهدافا للذاكرة وقيمة المقاومة التي كان يحملها شخص الحاج أمين الحسيني".

التعليقات (0)