هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
رحل القارئ المصري الشيخ محمد محمود الطبلاوي، وهو يعد آخر سلاطين دولة تلاوة القرآن، كما يحلو لكثيرين من الكتاب أن يطلقوا على هذا الجيل الذهبي من قراء القرآن الكريم في مصر والعالم العربي والإسلامي، هذه الكوكبة من القراء الذين يمثلون القوة الناعمة لمصر.
الطبلاوي كشأن كل القراء في مصر، حفظ القرآن الكريم ولم يتجاوز عمره التاسعة، ثم بدأ يذيع صيته بين الناس كقارئ للقرآن، وقد امتاز في تلاوته بعدة ميزات أهلته ليكون في الصدارة بين أقرانه، فهو صاحب صوت جهوري شديد وقوي، مما جعله لا يستطيع أن يستمر بنفس الطريقة في نهاية عمره، بحكم طبيعة أحباله الصوتية، والطريقة التي يقرأ بها، ولذا انقطع عن التلاوة بعد أن كبر سنه، فهو ليس الشيخ محمد رفعت الذي سجلت له اسطواناته الأخيرة التي لم يحفظ لنا الزمن غيرها، وقد كان وقتها مريضا بمرض في حنجرته، ومع ذلك نستطيع أن نفرق بين تلاوته شابا وتلاوته شيخا مسنا، ولكنه ظل يقرأ حتى توفي رحمه الله.
وامتاز الطبلاوي بنفس طويل في القراءة، وهي ميزة لم تهيأ لكثير من القراء، لكنها كانت ميزة اختص بها قراء مصر، من أمثال الشيخ المنشاوي، وعبد الباسط عبد الصمد، وأخيرا الطبلاوي، وغيرهم. ولبعض القراء طريقة لا يكتشفها إلا المختصون، وهو ما يسمى: بسرقة النفس، يعني يأخذ نفسه في المنتصف، دون أن تشعر، أو يتوقف، وهي طريقة لا يحسنها إلا عباقرة التلاوة، ومهرة النفس الطويل.
ولأن الحديث عن قارئ للقرآن، فيظل النقاش والكلام عنه من هذه الناحية، فليس معروفا عن القراء الخوض في العمل السياسي، أو الرأي الفقهي المختلط بالسياسة، أو الفتوى المسيسة، لأن الناس تعرف أن قارئ القرآن هو صوت يحسن أداء كتاب الله، وينطبع ذلك على طريقة أدائه، فتحبه الناس، أو تبغضه، ولذا كان التعجب بعد أن توفي الرجل، أن ينتقل الحديث من الترحم عليه، إلى النقاش هل نترحم عليه أم لا، وذلك للبحث عن موقفه من السلطة السياسية في مصر بعد انقلاب الثالث من تموز (يوليو) سنة 2013م.
وهو معيار ليس دقيقا في تقييم الناس، وبخاصة قراء القرآن، فطبيعة القراء ـ في الغالب الأعم منهم ـ ليسوا أصحاب ثقافة سياسية، وليسوا أصحاب رأي فقهي، وليسوا في الغالب خطباء، أو دعاة مبرزين، على خلاف بعض القراء في السعودية مثلا، فسنجد الشيخ السديس هو إمام الحرم وخطيبه، وكذلك الشيوخ: الشريم، والحذيفي، وشيوخ آخرون، ولذا تتبع الناس مواقفهم السياسية، فنتج عن ذلك الانصراف عن تلاوتهم، أو حبها.
ليس معروفا عن القراء الخوض في العمل السياسي، أو الرأي الفقهي المختلط بالسياسة، أو الفتوى المسيسة، لأن الناس تعرف أن قارئ القرآن هو صوت يحسن آداء كتاب الله، وينطبع ذلك على طريقة آدائه، فتحبه الناس، أو تبغضه
وقد استدرج الشيخ العفاسي في هذا الأمر، وهو بسيط في تكوينه العلمي، فدخل في معارك فقهية وعقدية لا قبل له بها، وبدا من بعض حواراته الإعلامية أن معلوماته محدودة، ولذا كانت إجاباته في قضايا تحتاج للحديث، بجملة أو جملتين قصيرة جدا، ولذا نتج عن ذلك مواقف سياسية لا طاقة له بها، فنتج عن ذلك صدود عدد من الناس عنه.
ولأن النظام الانقلابي في مصر كان يبحث عن أشخاص يحبهم الناس، لينال بهم شرعية، فقلب في دفاتره، وبحث عن أساليب دولة مبارك، فاستخدم اللاعبين في ذلك، فضغط على لاعب كمحمد صلاح، وبحث في عالم الفن كذلك، ثم في عالم المشايخ، وكان من هؤلاء الشيخ الطبلاوي، ولأن الطبلاوي قارئ في سن كبير، وليس له تاريخ علمي ولا ما يؤهله ليكون له موقف فقهي أو سياسي، فلم يكن من الصعب عليه أن يصرح مؤيدا النظام العسكري.
وهذا أمر مفهوم جدا لمن يدرك طبيعة عمل القراء في مصر، وطبيعة النظام العسكري في مصر، إن هؤلاء القراء سوقهم هو علية القوم، وأغنياء مصر، فيمكن للقارئ الواحد أن يحيي ليلة بخمسين ألف جنيه وربما زادت الآن، وهو مبلغ لا يقوى على دفعه إلا فئة محددة في مصر، ومعظم ليالي العزاء تكون في قاعات احتفالات تتبع القوات المسلحة، أو الدولة ممثلة في وزارة الأوقاف، فمن من القراء الذي سيتخذ موقفا مضادا للنظام حتى تُرفع سماعة هاتف تمنعه من هذا العمل، سواء بالأمر المباشر، أم بأمر غير مباشر؟!
وهل قراء القرآن في بلادنا تهيأوا أو تكونوا تكوينا علميا على أن يكون لهم موقف فقهي أو سياسي؟! الحقيقة: لا، ولذا يعد من عدم الإنصاف أن نقيمهم بنفس معيار أهل الفقه والعلم والفهم السياسي، ليس تبرئة لهم من ذلك، ولكن هو وضع لكل منهم في مكانه الصحيح، فهم ليسوا أهل توجيه، ولا أهل فتوى، ولا ينتظر منهم عامة الناس ذلك.
لقد التقى الطبلاوي بالرئيس محمد مرسي، كما التقى بالسيسي، كان لديه عشم كبير أن ينال حظوة لدى محمد مرسي بحكم أنه رئيس يحفظ القرآن، لكن لم يحدث له ذلك، وجرى بينهما حوار، كما أعلن الطبلاوي ذلك، أن مرسي عندما تولى حكم مصر أعلن: أنه بعد مائة يوم من حكمي، سيرى الناس فرقا، فعقب الطبلاوي: يا ريس مرسي، لماذا ترهق نفسك بوعد بمائة يوم، إن مصر تحتاج مائة سنة حتى ينصلح حالها.
ثم ذهب حكم مرسي بانقلاب عسكري، وجاء حكم عسكري، عودة لما كان عليه النظام قبل الثورة، ولذا من غير المتوقع أن يقف القارئ الطبلاوي ليقول: إن هذا انقلاب عسكري، وأنا أرفضه، فمنذ متى ونجد لقراء مصر موقفا سياسيا، لم يكن من القراء في مصر أصحاب مواقف إلا قلة محدودة جدا، ربما المنشاوي الذي أشيع عنه موقف لا نعلم صحته، من رفضه القراءة أمام عبد الناصر.
نشر الناس مقطعا من الفيديو للطبلاوي يتحدث فيه عن الرئيس مرسي بما لا يحب محبو مرسي، وهذا حقهم، لكن الطبلاوي قال نفس الكلام عمن حول مبارك، وعن زكريا عزمي تحديدا، لكن متى قالها؟ بعدما انتهى سلطان زكريا عزمي رئيس الديوان أيام مبارك.
علينا أن نزن الناس بميزان فيه إنصاف، فننظر لحسنات وسيئات الناس، فمن غلبت حسناته سيئاته فهو إنسان فيه الخير، مهما كانت درجة الاختلاف معه، وبخاصة أن الطبلاوي لم يكن مفتيا أحل دماء أحد، بل قال رأيا عن صواب أو خطأ، عن خوف أو لا؛ عن فترة حكم الرئيس مرسي، وهو قارئ للقرآن الكريم، يشفع له القرآن إن شاء الله، فنترحم عليه، وسيفنى جسد الطبلاوي، وتبقى تلاوته للقرآن الكريم، الذي أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يشفع للعبد يوم القيامة، غفر الله للطبلاوي ورحمه، وأحسن خاتمتنا جميعا بالخير.