هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
مع تفشي وباء كورونا كَثر تداول مواقع التواصل الاجتماعي للحديث النبوي القائل "فناء أُمتي بالطعن والطاعون، فقيل: يا رسول الله، هذا الطعن قد عرفناه فما الطاعون؟ قال: وخزُ أعدائكم من الجن، وفي كل شهداء"، حيث يتم الاستدلال به لإثبات دور الجن بوصفه المسبب الخفي لوباء الطاعون.
كما يُشار على نطاق واسع إلى كتاب "بذل الماعون في فضل الطاعون" للحافظ ابن حجر العسقلاني، صاحب الشرح الشهير "فتح الباري شرح صحيح البخاري" الذي يقرر فيه صحة الحديث السابق، ويثبت فيه ويؤكد أن الطاعون من وخز الجن.
ورافق ذلك جدل حول مدى توافق هذا التفسير الديني مع التفسيرات الطبية المؤكدة على أن الطاعون ناشئ عن بكتيريا حيوانية المصدر، وهو مختلف عن وباء كورونا الذي ما زال العالم بأسره يعاني من تداعيات تفشيه المرعب، إذ إن مصدر كورونا وباء فيروسي وليس بكتيري كما هو الحال في الطاعون.
في هذا التقرير، الذي أعده خصيصا لـ "عربي21" الإعلامي بسام ناصر، نستعرض مختلف الآراء الدينية حول مدى ثبوت هذا التفسير الديني لوباء الطاعون، مع إيراد ما يقوله الطب بهذا الخصوص، ومناقشة أوجه التعارض بين التفسير الديني والتفسير الطبي، وكيف يجيب علماء الدين عن الأحاديث التي تتعارض مع العلم التجريبي اليقيني؟
لا أحد من العلماء قال بضعفه
يشير الباحث الأردني المتخصص في الحديث النبوي وعلومه، الدكتور نضال ثلجي إلى أن الحديث المذكور أخرجه الإمام أحمد، والحاكم في المستدرك، وغيرهم، أما من جهة الصحة والثبوت فيلفت إلى أنه "لا يعلم أحدا من علماء الحديث صرح بضعفه، وقد صححه ابن خزيمة والحاكم في المستدرك، وابن حجر في فتح الباري، ومن المعاصرين الشيخ الألباني في كتابه (إرواء الغليل)".
وأضاف: "وذكر الدارقطني في العلل اختلافا وقع في إسناده، لكنه رجح أن هذا الاختلاف غير مؤثر، فقال "والاختلاف فيه من قبل زياد بن علاقة، ويشبه أن يكون حفظه عن جماعة، فمرة يرويه عن ذا، ومرة يرويه عن ذا".
وردا على سؤال لـ "عربي21" حول تعارض هذا الحديث مع الأحاديث الدالة على أنه نوع من أنواع الأمراض، قال ثلجي: "للعماء مسالك في نفي التعارض المذكور، فالمسلك الأول يتمثل في أن الطاعون لا يطلق في الشرع على معنى واحد، وإنما يطلق على أكثر من معنى، فتحمل هذه الأحاديث المتعارضة على معان مختلفة".
واستشهد ثلجي بكلام ابن القيم الذي رأى فيه أن هذه "القروح والأورام والجراحات هي آثار الطاعون وليست نفسه، ولكن الأطباء لما لم تدرك منه إلا الأثر الظاهر جعلوه نفس الطاعون، والطاعون يعبر به عن ثلاثة أمور: أحدها هذا الأثر الظاهر، وهو الذي ذكره الأطباء، والثاني: الموت الحادث عنه، وهو المراد بالحديث الصحيح في قوله (الطاعون شهادة لكل مسلم)، والثالث: السبب الفاعل لهذا الداء، وقد ورد في الحديث الصحيح (أنه بقية رجز أرسل على بني إسرائيل)، وورد فيه "أنه وخز الجن، وجاء أنه دعوة نبي"، وهو ما عده الباحث ثلجي أرجح الأقوال.
أما المسلك الثاني، يتابع ثلجي فهو "ما ذكر من كون الطاعون من طعن الجن، لا يخالف ما قاله الأطباء لأن أحدهما ناشئ عن الآخر، ناقلا عن ابن حجر قوله ـ بتصرف يسير ـ "وكونه من طعن الجن، لا يخالف ما قال الأطباء من كون الطاعون ينشأ عن هيجان الدم أو انصبابه، لأنه يجوز أن يكون ذلك يحدث عن الطعنة الباطنة فتحدث منها المادة السمية ويهيج الدم بسببها..، وإنما لم يتعرض الأطباء لكونه من طعن الجن لأنه أمر لا يدرك بالعقل، وإنما يعرف من الشارع فتكلموا في ذلك على ما اقتضته قواعدهم".
لكن المسلك الثالث للعلماء، الذي ينقله ثلجي عن الشيخ محمد رشيد رضا في تفسير المنار يغاير ما قاله المتقدمون، لأن صاحبه يذهب فيه إلى أن "الأجسام الحية الخفية التي عُرفت في هذا العصر بواسطة النظارات المكبرة، وتسمى بالميكروبات يصح أن تكون نوعا من الجن وقد ثبت أنها علل لأكثر الأمراض، قلنا ذلك في تأويل ما ورد من أن الطاعون من وخز الجن".
ويشدد الشيخ رضا في تفسيره على "أننا نحن المسلمين لسنا في حاجة إلى النزاع فيما أثبته العلم وقرره الأطباء او إضافة شيء إليه مما لا دليل في العلم عليه لأجل تصحيح بعض الروايات الأحادية، فنحمد الله تعالى على أن القرآن أرفع من أن يعارضه العلم"، لافتا إلى أنه أول من ذهب إلى هذا التفسير اللغوي، وذاكرا "إننا لا نعلم أن أحدا سبقنا إلى إدخال ميكروبات الأمراض وغيرها في عموم كلمة الجن".
ويذكر ثلجي أن "بعض العلماء المعاصرين تبعوا الشيخ رضا في تفسيره، منهم الأستاذ الدكتور موسى لاشين الذي يقول "والأولى أن يقال إن المراد من الجن في الحديث معناه اللغوي وهو الشيء المستتر، لا الجن المعروف فيمكن أن يقصد الميكروب الذي ينتقل إلى الجسم وهو لا يرى بالعين المجردة".
كورونا مختلف عن الطاعون
بدوره أوضح استشاري الأمراض المعدية والحميات، الدكتور جمال وادي لـ"عربي21" أن "الطاعون مرض قديم، وهو ناشئ عن بكتيريا معدية، أصلها حيواني، تسمم الدم، وتسبب التهابات رئوية، وفي الطب تفصيلات دقيقة لكل حالة من هذه الحالات، وتعرف بمجموعة من الأعراض".
أما وباء كورونا الحالي، بحسب وادي "فهو مختلف تماما عن الطاعون، لأنه ناشئ عن فيروسات، وله عدة أنواع وعدة سلالات، وأخرها كان فيروس (كوفيد 19)، أو الكورونا المستجدة، ينتقل عن طريق رذاذ التنفس من مسافة متر أو مترين، وله أعراضه المعروفة، من الحمى والسعال الجاف، ومشاكل في التنفس نتيجة مهاجمته للرئة".
لا حاجة لاستدعاء تفسير الجن
من جهته قال أستاذ الحديث النبوي وعلومه في جامعة الزرقاء الأردنية، الدكتور أسامة نمر "الحديث المذكور ورد من روايتين، يوجد في الأولى راوٍ مجهول، وفي الثانية راوٍ مخلف فيه، وهو من قبيل الحديث الحسن لغيره، ومثل هذا الحديث لا ينهض للاحتجاج به على قضية غيبية، لا سبيل لإثباتها إلا بنص ديني قطعي الثبوت".
وواصل حديثه لـ "عربي21" بالقول: "ولو تنزلنا وقبلنا به كنص ثابت، فهو مما ينبغي تأويله عن ظاهره، لأن الأمراض لها أسباب طبيعية معروفة عند الأطباء، وهي قرينة تجعلنا نصرف الحديث عن ظاهره، وتفسيره بأن الطاعون يأتي بخفاء وبسرعة، كما يتحرك الجن بخفاء وسرعة".
وتساءل نمر: "ما الذي نستفيده أو نقرره حينما نذهب في تفسير الحديث إلى إثبات أن الطاعون من وخز الجن؟ ففي النهاية نحن مأمورون بالأخذ بالأمر الشرعي في التماس العلاج والتداوي بالأسباب الطبية المعروفة عند الأطباء، وبالذهاب إلى المستشفيات عند الحاجة إليها".
وفي ذات الإطار وافق أستاذ التفسير وعلوم القرآن في جامعة العلوم الإسلامية بالأردن، الدكتور جمال أبو حسان ما خلص إليه نمر من أن الحديث "لا يرتفع عن مرتبة الحسن بحال" ذاكرا أنه توصل إلى هذه النتيجة بعد دراسته النقدية لجميع طرق الحديث ورواياته"، مثيرا ذات التساؤل "هل ما كان بهذه المنزلة يُستشهد به على أمر من الغيب كهذا الموضع"؟.
ولفت أبو حسان إلى أن "هذا الحديث يتعارض مع حديث آخر في صحيح البخاري حول الطاعون، وهذا نصه "الطاعون رجس أرسل على طائفة من بني إسرائيل، أو على من كان قبلكم، فإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه".
وأورد أبو حسان في حديثه لـ"عربي21" حديثا آخر عن عائشة أنها سألت رسول الله عن الطاعون فأخبرها أنه "كان عذابا يبعثه الله على من يشاء فجعله الله رحمة للمؤمنين، فليس من عبد يقع الطاعون فيمكث في بلده صابرا يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر الشهيد".
ووفقا لإبي حسان فإن "حديث البخاري، لا يوازن بالحديث السابق من حيث الصحة، ولا يمكن أن يتم الجمع بينهما لسببين: أولهما: أن حديث البخاري أعلى إسنادا من الحديث السابق، وثانيهما: أن الفاعل في الحديثين مختلف، ففي الأول هو الجن، وفي حديث البخاري إسناد الأمر إلى الله فكيف يمكن جعلهما حديثا واحدا".
وخلص أبو حسان إلى وصف القول بأن الجن هو الذي يسبب مرض الطاعون "قول لا وجه له بدليل حديث البخاري، والقول بأنه من وخز الجن ليس إلا من زعامات العرب كما أثبته غير واحد من المحدثين، منهم الحافظ ابن عبد البر الذي يقول في كتابه التمهيد "والعرب تزعم أن الطاعون طعن من الشيطان، وتسميه أيضا رماح الجن، ولهم في ذلك أشعار لم أذكرها لأني على غير يقين منها"، وفق تعبيره.