قضايا وآراء

الأستاذ الدكتور حسني الشياب يرحمك الله

صلاح الدين محمود المومني
1300x600
1300x600
لست أدري من أين أبدأ أستاذي الفاضل..

رغم قصر الفترة التي عرفتك فيها حينما كنت طالباً عندكم إلا أنها أوحت لي الكثير..

من هو أستاذي حسني الشياب، أبو كريم؟

كان شابا ربما في الثلاثين أو بلغ الأربعين من عمره حينما بدأت رحلتي الجامعية الأولى في الجامعة الأردنية متخصصاً في الشريعة "رئيسي" والعلوم السياسية "فرعي". بدأت معه بدراسة مبادئ السياسة، فكانت محاضراته أشبه بنظرية مستحدثة تنم عن فكر متأصل واعٍ، وقدرة في ربط الحادثة بأصول وقواعد هذا العلم. يعرف كيف يضع كلمته في أذن السامع فتنقلب فكرة قابلة للنمو والارتقاء، ثم ينتهي بها الحال بفاعلية تسقط وهم الواهمين.

لا أنسى أبداً ابتسامته الساخرة من الواقع حينما نعرج على حدث مرتبط بواقعنا وقضايانا، وكأنه يقول لنا: السياسة شيء وما يجري على ساحتنا العربية شيء آخر. نبراته حينما كان يريد أن يحلق في تفسير دستوري تشعرنا أنه يحلق في السماء ليمسك بكل ما تطاير من ذلك النص خارجه، أو يغوص باحتراف في عمق النص ليجد شيئاً أسقط لثقله أو ربما لحساسيته، لكنه لم يكن ليحلّق وحده، بل كان يأخذ كل ذي همة "لا يسحج" للعبارة المقولة، ولا يلتفت للنص الرسمي، ويكتفي به، بل يريد سبر الأعماق ليجد ضالته.

كنت أشاكسه بمحبة وهو يعرف ذلك ويحتمل هذه المشاكسة لكي يوصل للطلبة ما لا يريد قوله من ذاته، وإنما باستنطاقهم ليضعوا جزءاً من المعلومة ثم يتمها، إذ يرى طلابه شركاء معه وليسوا متلقين فقط. وكم استوقفني واستوقفته بما أكن له في نفسي من احترام كأحد طلابه، وما في نفسه من حرص علينا جميعاً، وعلى فهمنا للسياسة ومدلولاتها، ليوصل لنا الحقيقة التي يؤمن بها حتى وإن خالفناه الرأي والرؤية.

لأستاذنا (المرحوم بإذن الله) سجية لا تشبه كثيراً السجايا التي نراها في مدرّس الجامعة الروتيني، إذ كثيرا ما كان يقف متفرداً بعيداً عن الجمع إذا ضلوا أو ابتعدوا، ويواصل المسير حينما تُتعب الآخرين قضية مطروحة، فيمليها لطلبته غير عابئ بما قد يتولد من هذا الموقف من مواقف لا تلامس الحقيقة، لكن دونما إفراط أو تفريط.

أذكر ذات مرة أنني طلبت منه زيارة إحدى المؤسسات التي تمارس العمل السياسي، وكان وقتها قد عاد مجلس الأمة الذي تعطل لعقود (1984- 1985). لم يتردد أستاذنا بتنظيم الزيارة، وقدم طلابه لرئيس مجلس الأعيان آنذاك دولة أحمد اللوزي (يرحمه الله). جلسنا في قاعة اجتماعات تكاد تتسع لنا مع بعض الضيق، وجلسنا على أطراف طاولة نستمع للرجل المخضرم يتحدث عن الدستور الأردني وعن النظام. لم تمض فترة طويلة في الحديث حتى فتح لنا أستاذنا باب الأسئلة بالاتفاق مع دولة الرئيس، وكنت أول من رفع يده للسؤال، لكنني أحسست أنه يريد أن يؤجلني، فأشرت له بإلحاح، لكنه أصر على أن يبدأ بشخص آخر، لكي يبقي على الأجواء هادئة دونما صخب، فهو يعرف صخبي حينما نتحدث في السياسة، ولأنه كان يعلم من تجربة طويلة، في محاضرات كثيرة، أن سؤالي سيختلف عن أسئلة الآخرين، فهو إن صح ظني لم يرد أن يزعج مسامع المسؤول من أول سؤال. طالت بالنسبة لي وقصرت بالنسبة لهم لكن انتهت أسئلة الجميع، ولم يبق له عذر من الاستماع لي، فأذن حينها وتحدثت.

تلوت سؤالي دونما مقدمات، ومن نص الدستور الأردني المعطل، حيث يسمح الدستور بتأسيس الأحزاب والجمعيات السياسية بينما كانت الحريات والأحزاب آنذاك معطلة ظاهراً وباطناً (اليوم معطلة باطنا وموجودة ظاهرا). لم أقدم للسؤال بالديباجة المعهودة في الحديث مع المسؤولين، وختمت له بالقول: إما أن تسمحوا للأحزاب أو تلغوا النص الدستوري، لكن يجب أن لا نخدع العالم بدستورنا لنريهم أن دستورنا يأذن بالكثير وهو لا يأذن بشيء.

غمزني حينها أستاذي، ولا أدري إن كان أعجب بالسؤال أم ترحم على مستقبلي في بلدي، ثم قال دولة الرئيس: "والله سؤالك جابلي السكر يا مومني". همس له أستاذنا بشيء لكنه لم يخبرني بعدها عما قال لدولة الرئيس، فلربما هدأ خاطره لنقص الديباجة المعهودة. وأذكر أن مجلس الأعيان قدم لنا الشاي بعد ذلك وعدنا إلى جامعتنا. تبسم لي الرئيس وشد على يدي وهو يصافحني، وقابلته ابتسامة أستاذنا تنبئ بالقبول والرضا وربما الصفح.

حينما وصلنا الجامعة، بدأنا نقاشاً "عالواقف" حول الزيارة، وقبل أن يعلق أستاذنا قفز شاب كان حينها "مخبراً" وبصوت فيه تهكم على سؤالي وقلة احترام، وقال: "شو بدك أحزاب سياسية يا مومني؟"، قلت له حينها والله يا صاحبي أنا كنت بتكلم أمام اليد اليمنى للملك حسين ولم أتحدث في الزوايا، وهو قادر على فهم ما أريد، وكدنا نشتبك بمشاجرة كلامية. وهنا استوقفنا أستاذنا، وناداه باسمه، وأسمعه بعض الكلمات تهذيباً له وبادرني كذلك بالقول: "اسأل ما تريد لكن دون قسوة". وأنا أشهد هنا أن أستاذنا ودولة الرئيس كانا لطيفين في التعامل مع شاب ربما تنقصه القدرة على التعبير مع المسؤول، وكنت قد ذكرت لأستاذي بأنني لم أعتد التحاور مع المسؤول ولا أتقن وضع ديباجتنا الأردنية المعروفة، لكنني لا أتخطى الاحترام ودرجته الطبيعية بين الناس.

حينما أتحدث عن أستاذنا الفاضل أبي كريم، أتحدث عن معلم في السياسة، ومعارض غير معلَن، بالحجة وقوة المنطق، وهو فقيه دستوري تغلبُ عليه الصبغةُ السياسية أكثر من الصبغة القانونية، وحينما يحلل النص لا يجد حرجاً في رسم الصورة وتبيان ما بين السطور، وهو صاحب مذهب خاص به تكوّن بعيداً عن الشخصنة، واستطاع وضع القالب للطالب دونما تشويه له، لكن وفق رؤيته المتميزة التي تخصه وحده.

اتصلت بأستاذي حسني الشياب هاتفياً بعد ما يقرب من عشرين سنة، وكان دافع الاتصال عمل لقاء معه يخص بحث الدكتوراه حول الإصلاح في الأردن، ولا أستطيع أبداً أن أصور لكم فرحتي بالحديث معه بعد هذه السنوات. وحينما بدأته مكالمتي الهاتفية قلت له: أنا تلميذك المشاكس قبل عشرين سنة، فرد بالقول: "لا تذكر السنوات لأني بخاف أكون ختيرت". ثم مضينا في تفصيله ورؤيته للإصلاح في الأردن، وكنت أحدث نفسي وأقول: لقد تنكبت الدولة طريق الإصلاح لأن هذا الرجل ليس له موقع صنع قرار في أروقتها. فهو صاحب ضمير حي، وقلب محب للوطن، وشخصية حادة جريئة بالحق، ونفسية لطيفة حينما يكون الحوار بلغة مفهومة، وهو فوق هذا كله عالم في السياسة، ومنظّر في الفكر، وفقيه في الدستور، وصاحب كارزما دون استخدام السطوة، ولا يجد سبيلاً لقول الحق إلا سلكه.

حرصت على لقائه أثناء زياراتي للوطن، لكن حالت الظروف دون ذلك، ولعلي اليوم وأنا أقرأ خبر رحيله إلى الدار الآخرة، أجدني حزيناً شخصياً وبحكم مواطنتي الأردنية (إن كان النظام وسحيجته ما زالوا يعتبرونني أردنياً)، ولأن الوطن خسر قامة ورجلاً ربما لن يتكرر، ولأن حكوماتنا لم تكن جادة أبداً بتقديمه وأمثاله ليديروا دفة الإصلاح.

ثم، بعيداً عن السياسة وعلومها، أقول لابن الأردن البار، والأكاديمي الفذ، والرجل المخلص (لا نزكيه على الله، فالله يزكي من يشاء): خسرناك يا أبا كريم وحزننا مضاعف لمصابنا برحيلك. كانت الجامعة الأردنية ذات يوم تضج بالفكر، ولا أدري أين وصلتَ بمحطتك الأخيرة في التعليم والبحوث، لكن بكل تأكيد ستظل جنبات هذه المؤسسات تذكرك، وتذكر ما قدمت.

أما نحن الذين عرفناك، فسندعو لك بقلوب ضارعة بأن يتغمدك الله برحمته، ويسكنك في عليين، كما أدعو الله أن يثبت أهلك وعائلتك من بعدك، ويلهمهم الصبر وكلَّ من أحبك، إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير، اللهم ارحمه واجعل كل ما قدم ذخراً له عندك.

لا أريد أن أسهب في الحديث أكثر عنك يرحمك الله، فما أود قوله أكثر بكثير من هذه السطور، ولا أظنني أضجر لو بقيت أسرد مناقبك حتى الصباح، لكن بهذا القدر أكتفي وليرحمك الله أستاذي الفاضل.. يرحمك الله..
التعليقات (0)