كتاب عربي 21

المقاومة الفلسطينية من النكبة إلى انطلاقة فتح: الإخوان الفلسطينيون ونشأة حركة فتح (7)

محسن محمد صالح
1300x600
1300x600
نخلص من الحلقتين السابقتين إلى أن جماعة الإخوان المسلمين الفلسطينيين، كانت الحاضنة الأولى لنشأة حركة فتح، وخصوصا بين أفرادها من أبناء قطاع غزة. ولكن المبادرة لإنشاء هذه الحركة لم تكن بقرار من قيادة الإخوان الفلسطينيين في قطاع غزة، وإنما من عدد من القيادات التي كانت تتمتع بدينامية عالية، وتملك قدرا كبيرا من النشاط والتأثير في الأفراد. حيث كان أعضاء الإخوان ينظرون إلى هذه القيادات باحترام ويفترضون (في جو العمل السري) أن ما يصدر عن هذه القيادات هو توجه الإخوان، خصوصا أولئك الذين يصعب عليهم الاتصال المباشر بالقيادة، كأفراد الإخوان في الكويت وقطر والسعودية.

إن رواد فتح اختطوا مسارها بعد أن لم تتجاوب قيادة الإخوان في قطاع غزة مع المشروع الذي قدموه لها في صيف 1957، بإنشاء ما عرف لاحقا بحركة فتح، ووجدوا أن عليهم أن يأخذوا زمام المبادرة بأنفسهم دون مزيد من الانتظار، حتى تُغيِّر هذه القيادة قناعاتها، أو حتى تتحسَّن الظروف التي قد تؤدي إلى ذلك. ولم يكن خلاف الإخوان الفلسطينيين مع فتح على فكرة المقاومة والجهاد، ولا على العمل في إطار وطني، وإنما على التوقيت، وإمكانات النجاح، والقدرة على التحكم في مسارات الحركة. وكانت قيادة الإخوان ترى أن ظروف الملاحقة الأمنية الشرسة للإخوان، وصعوبة العمل العلني أو شبه العلني المنظم، لا توفر حدا أدنى لنجاح العمل، خصوصا إذا ما أراد الإخوان أن يسير ضمن معاييرهم، أو إن كُشفت علاقته بالإخوان.

غير أن خروج عناصر فتح بشكل عام كان هادئا وليس حادا. أما الصدامات التي وقعت في قطر، فكانت أساسا نتيجة رغبة القيادات الفتحاوية في البقاء في مواقع النفوذ في التنظيم الفلسطيني، وليس بسبب الرغبة بالخروج.

وقد تعرَّض تنظيم الإخوان الفلسطينيين لهزة كبيرة، بخروج عدد لا يستهان به من عناصره القيادية التي شكلت حركة فتح، وهي عناصر نوعية تميزت بالكفاءة والحيوية وروح المبادرة؛ ومعظمها كانت قيادات وكوادر أساسية في العمل العسكري الخاص، الذي شكَّله الإخوان في النصف الأول من خمسينيات القرن العشرين. (وقد ذكرنا في الحلقتين السابقتين أسماء الكثير من المؤسسين في الكويت وقطاع غزة والضفة الغربية والأردن والسعودية وقطر ومصر وسوريا ولبنان)، وإن عدم قيام قيادة الإخوان الفلسطينيين من أبناء القطاع بترتيب بنيتها التنظيمية الداخلية، وضبط العلاقة بأفرادها الذين انتقلوا للإقامة في الخارج، إلاَّ في مطلع الستينيات؛ قد أعطى حركة فتح مساحة واسعة للعمل في الوسط الإخواني؛ حيث أسهمت "البيئة الرخوة" و"المنطقة الرمادية" في تسهيل قيام العديد من رموز الإخوان الذين أصبحوا قيادات في فتح بتجنيد الكثير من أفضل الكفاءات والطاقات الإخوانية، قبل أن يلملم تنظيم الإخوان المسلمين في قطاع غزة نفسه، ويوسع دائرة فروعه للأقطار العربية (عدا الأردن) ويأمر أعضاءه بالتمايز عن فتح.

وقد استفاد مؤسسو فتح من خبرتهم التنظيمية والأمنية والعسكرية في الإخوان، وتحديدا في العمل الخاص؛ حيث شكل ذلك رصيدا مهما، أمكن الاستفادة منه في بناء التنظيم الجديد، وقاعدة انطلاق لحركة فتح. كما استفادوا من خبرة زملائهم ممن شاركوا مع متطوعي الإخوان في حرب القناة ضد الإنجليز (1951-1954) وتحديدا ياسر عرفات، كما استفادوا من خبرة زملائهم ممن شاركوا في حرب 1948 وتحديدا يوسف عميرة وكامل الشريف.

إن القراءة المتأنية لسلوك عناصر الإخوان التي شاركت في فتح في السنوات الثلاث الأولى من نشأتها على الأقل (1960-1957)، تشير إلى أن الكثير من هذه العناصر استمر في عضويته في الإخوان، واستفاد من موقعه القيادي والتنظيمي في تجنيد عناصر الإخوان النوعية، لدرجة أشعرت قيادة الإخوان الفلسطينيين بنوع من "التهديد الوجودي" لتنظيمهم على حد تعبير عبد الله أبو عزة، أحد أبرز قيادات الإخوان. ومن ثمّ، فإن ترعرع فتح وانتشارها في الحاضنة الإخوانية، كان سببا رئيسيا لدفع قيادة الإخوان في غزة لإعادة بناء التنظيم الفلسطيني، وتوحيده تحت قيادة واحدة، واتخاذ قرار التمايز والمفاصلة مع فتح. وفي الوقت نفسه، لم يكن ثمة إجماع في الوسط القيادي الإخواني الفلسطيني على المفاصلة مع فتح؛ حيث ظلت بعض الأصوات تنادي بضرورة أو المشاركة الكلية أو الجزئية على الأقل، كما في آراء سليمان حمد ومحمد الخضري. وهو ما أثمر لاحقا في معسكرات الشيوخ.

من جهة أخرى، فقد استفادت قيادات فتح ذات الخلفية الإخوانية من شبكات العلاقات وإمكانات الدعم المادي والمعنوي، التي وفرتها جماعات الإخوان في مختلف الدول سياسيا وماليا وإعلاميا وعسكريا؛ مما مهّد لفتح وسائل انتشار ودعم لوجيستي مبكرة. إذ إن العديد من قيادات تنظيمات الإخوان ظلت تتعامل بشكل إيجابي مع فتح، ولم تلتزم بالضرورة بموقف الإخوان الفلسطينيين منها، حتى بعد قرار المفاصلة، كما رأينا في نماذج من الإخوان المصريين والكويتيين والأردنيين والسوريين.

وعلى أي حال، فلا ينبغي للإخوان أن يبالغوا في نسبة حركة فتح إليهم، كما لا ينبغي لحركة فتح أن تتنكر لجذورها وبداياتها الأولى، فإذا كان الإخوان هم المحضن الذي خرجت منه الفكرة وبداياتها الأولى، فإن فتح لم تنشأ بقرار من قيادة الإخوان ولا وفق خططهم، كما أن مشروعها لم يحمل أيديولوجية الإخوان، ولا الضوابط التي تضمن سيره كمشروع يخدم أهدافهم. وعندما طالبت قيادة الإخوان في غزة بالإشراف المباشر على فتح، رفضت قيادة فتح ذلك. وهذا، وإن كان يدل على وجود صلة قوية بين الإخوان وفتح، إلا أنه يدل على أن قيادة فتح كانت تملك من الجرأة والثقة ما جعلها ترفض التوجيه، كما يدل أن فتح كانت قد اختطت منذ أمدٍ خطا مستقلا في التعبئة والتنظيم والعمل.

وربما تعود حالة الالتباس لدى العديد من الباحثين حول نشأة فتح، إلى أن بعض القيادات الفتحاوية التي اتجهت اتجاهات علمانية أو قومية أو وطنية مختلفة، حاولت أن تنفي لاحقا خلفياتها الإخوانية (كما فعل صلاح خلف/ أبو إياد)، أو أن تقلل المدى الزمني لعضويتها، خصوصا أن التجربة الإخوانية تحولت إلى فترة عابرة في حياتها، كما لم يكن ثمة مصلحة في ذكر هذه الخلفية، في ضوء حالة العداء والنظرة السلبية للإخوان التي طبعت سلوك العديد من الأنظمة العربية، وخصوصا النظام المصري. ثم إن حالة التنافس التي نشأت وتصاعدت لاحقا مع جماعة الإخوان الفلسطينيين وحماس، دفعت باتجاه محاولة التخفيف من الخلفية الإخوانية لهؤلاء. وفوق ذلك، فإن الإخوان أنفسهم لم يكتبوا إلا قليلا حول الخلفيات التاريخية لنشأة فتح، في الوقت الذي لم يصل مؤرخو الحركة الوطنية الفلسطينية إلى العديد من شهود المرحلة من الإسلاميين الذين ظلوا على التزامهم "الإخواني"، بينما سجلوا الشهادات التاريخية لمناضلي فتح.

وثمة ملاحظة أخيرة ومهمة، هي أن بعضا من القيادات الفتحاوية راعت حساسية ياسر عرفات ورمزيته، بعدم التركيز على تجربة العمل المقاوم التي سبقته؛ وهو ما أشار إليه محرر مجلة الدراسات الفلسطينية في استنتاجه لماذا قام خليل الوزير (أبو جهاد) بإتلاف معظم نسخ كراس "حركة فتح: البدايات" وإيقاف توزيعه؛ من أنه يُرجِّح أن ذلك يعود للرغبة في عدم إغضاب ياسر عرفات وصلاح خلف، لأن فترة العمل العسكري في النصف الأول من الخمسينيات لا تشير لدور لهما في ذلك، وتمّت قبل لقائه الأول بعرفات. من ناحية ثانية، فإن أبا جهاد في كراسه الذي أعد سنة 1986 بدا أكثر حذرا في الإشارة إلى الإخوان من مقابلته التي أجراها مع سلوى العمد في 9 كانون الأول/ ديسمبر 1980. (انظر: خليل الوزير، "حركة فتح: البدايات،" مجلة الدراسات الفلسطينية، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، العدد 104، خريف 2015).

وعلى سبيل المثال، في مراعاة الحساسيات، فإن فتحي البلعاوي لم يتطرق في أوراقه لانتخابات الدورة الثالثة لرابطة طلبة فلسطين في مصر؛ ربما (كما أشار معين الطاهر الذي حرر الأوراق) لأنه في تلك السنة ترأس عبد الفتاح حمود قائمة الإخوان في مواجهة قائمة منافسة شكلها ياسر عرفات حيث فازت قائمة الإخوان بكافة المقاعد، لأن البلعاوي عندما تحدث عنها كان لا يرغب في إحراج ياسر عرفات؛ الذي أصبح لاحقا زعيما للشعب الفلسطيني، بينما أصبح البلعاوي نفسه عضوا (وإن كان مؤسسا) في حركة فتح التي يترأسها عرفات. (انظر: معين الطاهر، "بين تأسيس رابطة طلاب فلسطين ومقاومة الإسكان والتوطين: أوراق فتحي البلعاوي،" مجلة أسطور، العدد 5، كانون الثاني/ يناير 2017).

وأخيرا، فليس ثمة "إنجاز" تاريخي كبير من الفكرة التي يريد المقال توصيلها، وإنما هي محاولة بسيطة لوضع بعض النقاط في سياقها التاريخي الصحيح. وعلى كل حال، فليس ثمة كثير فخر الآن لدى فتح بخلفيتها الإخوانية، وليس ثمة كثير فخر لدى الإخوان بخلفية فتح؛ خصوصا أن تأثير الخلفية اقتصر على البدايات الأولى، إذ لم يطل الزمان بفتح إلى أن تحولت إلى حركة علمانية براغماتية بهوية وطنية، ومسارات نضالية واجتهادات سياسية خاصة.

ولعل أبرز درسين من هذه التجربة؛ أن العمل لفلسطين قد يحتمل تخفيف قوة الموجة، لكنه لا يحتمل الانكفاء والانعزال؛ وإن حدث فهو للاستثناء وللضرورة التي تقدر بقدرها. وإن عدم قدرة جماعة الإخوان على استيعاب وتوجيه طاقة مجموعة من أفضل كفاءاتها (لأسباب ذاتية وموضوعية)، قد أدى إلى خسارتها، وإلى ملء هذه الكفاءات للساحة الفلسطينية بطريقة أثَّرت لاحقا على المسار الوطني الفلسطيني. والدرس الثاني هو لأولئك الذين لا ينتبهون إلى ضبط مساراتهم وحسم خطوطهم الحمراء (العقائدية والأيديولوجية)، ويستجيبون للتكتيكات والاعتبارات البراغماتية المصلحية، ويتخففون من التزاماتهم (الدينية والسلوكية والفكرية)، قد يجدون أنفسهم في نهاية المطاف، وقد ابتعدوا عن أهدافهم، وتغيرت معاييرهم، وتضاءلت قيمهم. وربما وجد بعضهم نفسه في أحضان خصومه!!
التعليقات (0)