هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
"يوم الأرض" هو يوم يحييه الفلسطينيون في 30 آذار (مارس) منذ العام 1976 بعد أن قامت سلطات الكيان الصهيوني بمصادرة مساحات من الأرض التي يملكها الفلسطينيون.
"يوم الأرض" هو يوم شبه مقدس عند شعوبنا العربية والإسلامية يُحيونه كل سنة تذكيرا بأن للأمة أرضا مغتصبة إذا عجزوا عن استردادها فعليهم ألا يعجزوا عن تذكرها وتذكير الأجيال بها، وهي ذكرى حاضرة عند التونسيين بقوة لا يتخلفون عن إحيائها وخاصة طلبة الجامعات والحركات ذات المرجعيات العروبية والإسلامية.
حين اندلع "الربيع العربي" ذات شتاء تونسي ومصري وليبي في العام 2011 وسقطت رؤوس ثلاثة بسرعة فائقة، وانطلقت الجماهير تلهج بشعارات الثورة وانطلق السياسيون يلهجون بالديمقراطية كان لدي سؤال: من نظّر للثورة ومن قادها وما هي مشاريعها المستقبلية؟ لا أحد من زعماء الأحزاب يزعم لنفسه قيادة للثورة بل كل يؤكد أنها ثورة الشباب.
في مركز الجزيرة للدراسات الإستراتيجية بالدوحة سألت الدكتور رفيق عبد السلام في أيار (مايو) 2011 وكان مديرا للمركز عند زيارتي له: ألا ترون أن مؤامرة تُحاك ضد الحركات الإسلامية بتوريطهم في الحكم وإفراغ أوروبا والغرب من قياداتهم ومثقفيهم، حيث أصبحوا يمثلون عبئا عليه ـ سياسيا وأخلاقيا ـ وخاصة في دعم القضية الفلسطينية وفي قيادة جزء من الرأي العام من الجالية وحتى من المواطنين الأصليين الذين يرفضون الاحتلال والظلم ويتعاطفون مع الشعب الفلسطيني؟ لاحظت أن السؤال فاجأه فقلت له: اشتغلوا على هذه الفرضية.
اليوم تأكدت من صدقية حدسي وأزداد كل يوم اقتناعا بأن الإسلاميين أُريد لهم الغرق في الفوضى وفي الفشل وفي الصداع الأليم حتى يخرجوا من دائرة الصراع العربي-الصهيوني وحتى يظلوا منشغلين بأزماتهم وبما يتهددهم من الفشل ومن الانقلابات بحيث لن يكون لهم متسع من الجهد أو الوقت لتعبئة الرأي العام نصرة لقضية فلسطين وللمسجد الأقصى وللقدس الشريف.
كانت الشعارات المعبّأة بالانتصار لفلسطين حاضرة في أغلب أنشطة الإسلاميين قبل وبعد الانتخابات الأولى، بل وتمت دعوات لرموز حركة "حماس" في أكثر من مناسبة وقد سافر وفد حكومي جله من الإسلاميين إلى غزة مساندة لأهلها إثر غارة صهيونية غادرة.
الحركات الإسلامية التي تسلمت مقاليد الحكم سواء منفردة أو ضمن تحالفات أصبحت تجد نفسها في وضعية عملية مختلفة عما هو نظري وشعاراتي... إنها تواجه ضغطا شعبيا ومطالب اجتماعية مشروعة وتواجه أيضا ضغطا سياسيا وأحيانا مطالب تعجيزية ولا تستطيع الاستجابة لا لمطالب الداخل ولا لتسديد الديون الخارجية، بل وتجد نفسها مضطرة للاستدانة من جديد من جهات غربية هي على علاقة وطيدة بالكيان الصهيوني، ومن يُطعمك يُلجمك ومن يملك قوتك يملك أن يقودك.. ولعلها تكون مكرهة على إبداء مرونة واضحة في الملف الفلسطيني وثمة أكثر من شاهد على ذلك سواء في مصر أو في تونس أو في ليبيا، ونحن نرى ما تتعرض إليه الحكومة في تونس من ضغط لتجريم التطبيع في الدستور ولكنها لا تستطيع أن تعلن الرفض صراحة ولا تستطيع أن تفعل بوضوح تحت إكراه السياسة والاقتصاد.
"الربيع العربي" تحول بفعل وصول الإسلاميين إلى السلطة إلى خريف عاصف بوجه القضية الفلسطينية، حيث غاب خطاب "المقاومة" في الخطاب السياسي للإسلاميين بعد وصولهم إلى الحكم تقديرا لدقة المرحلة وصعوبتها، بل وصعدت إلى السطح مبادرات "السلام" واستعاد الرئيس الفلسطيني محمود عباس دوره النشط في التفاوض بوساطة الخارجية الأمريكية وكادت تتوقف العلاقة بين "حماس" وحلف المقاومة المعروف.
في القضية الفلسطينية لا أحد يستطيع المزايدة على الإسلاميين التونسيين في دعم المقاومة ضد الكيان الصهيوني وأنصار الحركة يرددون مقولة زعيمهم "القدس آية من القرآن الكريم من فرط فيها فقد فرط في القرآن كله"، والمتأمل في الأنشطة الثقافية للإسلاميين منذ الثمانينيات يلحظ أن أغلب التظاهرات كانت تُقام لأجل فلسطين. وإرث الإسلاميين في الشعر والأغاني والمقالات مشرف جدا لا ينافسهم فيه خصومهم.
أسعدنا كثيرا توحد التونسيين في إدانة جريمة اغتيال المقاوم البطل محمد الزواري وفي تجاوز كل صفة إيديولوجية للرجل من أجل الإعلاء من شأن هويته المقاومة.
لسنا نتهم أحدا بالمزايدة في القضية ولكننا في نفس الوقت لا يمكن أن تنطلي علينا حيل بعض السياسيين حين يريدون محاصرة النهضة وإجبارها على إعطاء موقف محدد من الشهيد.
لا يخفى ما عانته النهضة من حرج وهي تقلب المواقف وترجح البيانات بما لا يضعها في مرمى المتربصين بها.
لو قال الغنوشي إن الشهيد هو شهيد الحركة فلن يتردد خصومه في اتهامه بكونه صاحب خطاب مزدوج وبكونه يتظاهر بالمدنية ويُخفي حقيقته "العسكرية" ولن يترددوا في اتهامه بكونه يُعد جناحا عسكريا لوقت الحاجة، بل لن يتعففوا عن توريطه مع الأمريكان وأوروبا ليجعلوا منه وجها آخر من وجوه بن لادن أو المقاوم عزالدين القسام وهم يعلمون بأن أمن الكيان الصهيوني هو هاجس أمريكا وأوروبا.
حين عبر الغنوشي في اجتماع بالقيروان عن كون الشهيد الزواري ليس من "النهضة" إنما كان يعبر عن حقيقة تنظيمية فالرجل لا يمكن أن يكون عنصرا فاعلا في مقاومة معقدة التنظيم والحركة وفي نفس الوقت عضوا مدنيا في حركة سياسية مفتوحة... خصوم الغنوشي اعتبروا تصريحه ذاك إعلان براءة من الشهيد ومن خيار المقاومة ليستخلصوا ما يُسيئون به إلى مواقف الرجل من القضية الفلسطينية ولعلهم كانوا في قرارة أنفسهم يودون لو أنه قال إنه ابننا الذي نفخر به.
من قرأ للغنوشي حول فلسطين وحول الديمقراطية والمدنية والحرية والمرأة وغيرها من قضايا السياسة والمجتمع والحياة لا يمكن أن يجد ما يتهم به الرجل في ثوريته وفي وطنيته وفي سلميته ولكن حين ننظر في آدائه السياسي وجب علينا تأمل الواقع وقراءة التفاصيل واستقراء الخفايا.
الشجاع من يواجه الواقع بواقعية دون تأثر بما يقوله المتحمسون وما يعلق به الإندفاعيون، والحكيم من لا تستثيره انتقادات الماكرين فيُلقي بأتباعه في الهاوية دفعا لشبهة "العمالة" عن نفسه... الغنوشي شخصية سياسية تونسية في بلد لم يحقق بعد اكتفاءه الذاتي في الغذاء والدواء وهو ليس قائدا عسكريا ولا رئيس دولة عظمى.
لسنا نبرر مواقف الرجل وإنما نفسر ونحن نعلم جيدا المسافة العملية بين رحابة التنظير وأوحال التدبير، ونعلم أيضا أن كثيرا من خصومه لا يهاجمونه بمبدئية وإنما بانتهازية، وهم يعلمون أنه يجوز لمن هو خارج السلطة ما لا يجوز لمن هو في السلطة، وهم يعلمون أيضا بأن السياسة لم تعد إنتاجا محليا إنما هي تمازج بين المحلي والإقليمي والدولي.
على الإعلاميين والمثقفين أن يشتغلوا على الأهداف الكبرى وأن يشتغلوا بإنتاج ثقافة المقاومة وفكر التحرر وأن يستثيروا إرادة الحياة والتمرد لدى المواطنين وأن يكشفوا عن المؤامرات التي تحاك ضد مجتمعنا وأمتنا.
إذا كانت السياسة هي فن التعامل مع الممكن فإن الإبداع هو فن الدفع نحو المستحيل... وإن المثقف الذي يحلق في عالم الكمالات وسبحات الوجود لا يغفل عما يعانيه السياسيون من عذابات التمزق بين الأشواق والغُصص.
يبدو أن التحولات الكبرى التي تشهدها المنطقة هذه الأيام ستفرض على الجميع من أنصار الأرض الفلسطينية التفكير في الطرائق المجدية للتعامل مع المحتل بعيدا عن أساليب التسويات المائلة.
اعتراف الرئيس الأمريكي ترامب بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني مثل الصدمة الأخيرة للوجدان العربي المسلم وأجج انتفاضة جديدة في الأراضي المحتلة وخاصة غزة الصامدة وأعاد حركات المقاومة إلى خطاب الوحدة والتكامل في مواجهة الكيان الغاصب وقرار ترامب الاستفزازي والمهين.
العرب لم يبق منهم إلا القليل بعد خروج مصر وإذلال السعودية وتخريب ليبيا وسوريا والعراق واليمن.